حمّاد السالمي
منذ ما قبل الإسلام؛ والعراق أرضًا وبشرًا يصطلي بنيران الغير. كان الأكاسرة الفرس، وكان القياصرة الروم؛ يلتقون على أرضه متبارزين متحاربين بنشاب العرب أهل العراق أنفسهم..! فتميل الكفة مرة للشرق الفارسي، وتميل أخرى للغرب الرومي، والثمن يُدفع من دماء العراقيين، ومن خيرات أرضهم، وعلى حساب تاريخهم وحضارتهم وثقافتهم.
قدر العراق العربي العظيم.. بلاد الرافدين، وأرض السواد؛ أنه كان وما زال في جوار من لا جوار له ولا ذمة. الفرس هم الفرس، حتى بعد دخول أرضهم في الإسلام. يذهب كسرى، ويأتي من هو أكسر منه وأخبث إلى يوم الناس هذا، والروم هم الروم، يذهب قيصر، ويأتي الأتراك خليفة بعد خليفة، إلى عهد خليفة الإخوان في هذا الزمان.
دماء كثيرة سالت على أرض العراق، وأحبار جليلة اختلطت بمياه دجلة، ولم يتمتع هذا القطر العربي بأمن كامل طيلة قرون من تاريخه. الفترة الأموية كانت فترة ردع للخوارج الذين كانوا يلوذون بأرض فارس، والفترة العباسية في معظمها كانت للتسلط الفارسي الناعم على الدولة.
المشهد الحالي في العراق؛ يبعث على الحزن، نظرًا لما آلت إليه الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تشرذم واضح في كافة المفاصل الحياتية لهذا البلد بعد انهيار الدولة. انهيار الدولة العراقية بدأ منذ ثلاثة عقود وليس اليوم، ما أدى إلى التحزبات الطائفية والعصبيات العرقية، ووصل إلى أن يكون لكل حزب وطائفة مرجعية دينية، وقوات عسكرية، وحشود مقاتلة، وولاءات عابرة للحدود والجدود والقارات كذلك.
لو كان في العراق دولة موحدة قوية، ومؤسسة عسكرية متماسكة - مثلما هو الحال في مصر- لما كان للفرس ولا للأميركان ولا الجماعات الإرهابية؛ وجود يذكر على أرض العراق. كل ما يُردد ويُقال عن المرجعيات والطوائف والحشود الشعبية وخلافها؛ هي صناعة إيرانية، لإضعاف العراق، وللاستحواذ على حاله وشأنه وقراره وخيراته، وقد نجحت إيران في هذا المسعى، ليس بجهدها؛ ولكن بجهود بعض العراقيين الموالين مذهبيًا أو عرقيًا لإيران الخمينية. كان المشروع الإيراني منذ وصول الخميني لطهران قبل أربعة عقود ونيف؛ هو تصدير الثورة لدول الجوار وما بعد الجوار، ولكن المشروع تطور وتنمّر، ليشمل تصدير المشكل الإيراني مع الداخل والخارج إلى الجوار. وكان العراق تبعًا لهذا، مكانًا لمبارزات ومحاربات إيرانية مع خصومها، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية، وتحولت العراق على مدى عقود ثلاثة؛ إلى ساحة للتصفيات والقتل والتشريد والتمدد إلى سورية ولبنان واليمن. العراق وحده؛ تحول إلى ثغر إيراني متقدم لتصدير الثورة والعورة معًا. ولا عزاء لسبعة وثلاثين مليون إنسان عراقي؛ يتظاهرون طلبًا لعيش كريم في بلد آمن. يطلبون وطنًا فقدوه، وينادون ليل نهار: (بغداد حرة حرة.. إيران برة برة)؛ في الوقت الذي كانت تدار فيه مصائرهم لصالح طهران عن طريق قائد فيلق القدس الجنرال الهالك قاسم سليماني، حاكم العواصم العربيات الأربع من قبل خامنئي: (بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء).
ها قد هلك سليماني بعد أن عاث فسادًا وإجرامًا في هذا البلد لعقود ثلاثة، وخلفه بأمر خامنئي قائد وحاكم جديد هو إسماعيل قاآني. هل تتوقف الوصاية الفارسية على العراق وبقية الدول العربية التابعة لها..؟
من المؤكد أن المشكل العراقي هو في قيادة سياسية- لا قيادات- قيادة عربية نابعة من أرض العراق وشعبه وتاريخه وأصله. قيادة جديدة تبني دولة مهابة الجانب، دولة تمسك بزمام كافة الأمور السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، فتوحد التوجه والرؤية، وتحدد العلاقة مع القريب قبل البعيد، فتطهر البلد من الولاءات والتدخلات، وتحرر الأرض من كافة الغرباء والأوصياء والمحتلين فرسًا كانوا أو أميركيين أو أتراكا. لن ينقذ العراق من هذا المستنقع الذي هو فيه اليوم؛ سوى قيام دولة عربية صرفة لها صولة وقولة.
من المؤسف؛ أن يتحول العراق العظيم إلى مكان لتصفية الحسابات بين الدول والأحزاب والجماعات، وأن يصبح وسيلة للنفاق والمزايدات. يُقتل القاتل قاسم سليماني ومن معه من أذناب إيران؛ فيتكأكأ السفلة من كل حدب وصوب؛ لتأبينه وتمجيده والبكاء واللطم عليه. دول مثل سورية ولبنان وقطر وتركيا تقدم العزاء، وفروع جماعة الإخوان المفسدين من قطر وغزة وتركيا وتونس واليمن وغيرها؛ تبكي القاتل المجرم، وهي التي ترفع شعارات ضد القتلة والمجرمين..! حتى أعضاء حزب الله وحماس والجهاد من غزة، شاركوا في اللطم، وهم يعرفون أن قائد فيلق القدس.. القدس.. منذ أربعة عقود- الهالك سليماني- لم يعرف طريقه للقدس..! مع أنه ظل يقتل في السوريين طيلة عشر سنين؛ غير بعيد عن حدود إسرائيل في الجولان..!
ما أحوج العراق وشعبها العربي في هذا الظرف العصيب؛ إلى حكمة الشاعر العربي الجاهلي: (الأفوه الأودي) الذي قال:
لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ
وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا
إِذَا تَوَلَّى سَرَاةُ النَّاسِ أَمْرَهُمُ
نَمَا عَلَى ذَاكَ أَمْرُ القَوْمِ فَازْدَادُوا
تُهْدَى الأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ
فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالأَشْرَارِ تَنْقَادُ
أَمَارَةُ الغَيِّ أَنْ تَلْقَى الجَمِيعَ لَدَى الـ
ـإِبْرَامِ لِلْأَمْرِ وَالأَذْنَابُ أَكْتَادُ
كَيْفَ الرَّشَادُ إِذَا مَا كُنْتَ فِي نَفَرٍ
لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ
أَعْطَوْا غُوَاتَهُمُ جَهْلًا مَقَادَتَهُمْ
فَكُلُّهُمْ فِي حِبَالِ الغَيِّ مُنْقَادُ