د. محمد عبدالله العوين
هذا ما نراه اليوم عياناً بياناً في الدول التي انتهكت سيادتها وسلبت إرادتها وضيعت قيادتها وفقدت هويتها وأصبحت تابعة ذليلة راكعة وضيعة مستسلمة خاضعة مطيعة مسيرة بأمر محتلها الفارسي أينما يوجهها تتوجه وكيفما يريدها تتكيف.
نرى هذا في دول عربية سهل الدروب وهد الطرق وفتح الأبواب أولئك الطائفيون المخدوعون، أو أولئك المنتمون إلى الفرس بعرق أو نسب.
ويحسن بنا أن نتذكر معاناة العرب في العصر العباسي من تغلب طبقة نافذة متحكمة بالقرار وقريبة من السلطة العباسية في فترات ليست قصيرة من عمر دولة بني عباس تنتمي إلى العرق الفارسي أو تمت له بصلة نسب أو حسب فأشاعت وأذاعت ما للفرس من مفاخر سبق حضارة وتفوق في الفلسفة والآداب وتقدم في البناء والمعمار، حتى ضاق بأبناء القبائل العربية الأصيلة التي فتحت بلاد فارس هذا التعريض بهم واتهامهم بأنهم حفاة رعاة لا صلة لهم بحضارة ولا تفوق في المدنية والحضارة، وهو اتهام باطل لا صحة له، ولكنهم يتجاهلون تاريخ الحضارة العربية القديم، ولغلبة الشعوبيين على القرار الإداري والسياسي والعسكري في الدولة العباسية التي جاءت بالفرس انتقاما من أبناء عمهم الأمويين الذين اعتمدوا على العنصر العربي في بناء دولتهم شاعت نغمة امتداح الفرس والإشادة بهم وتعداد مفاخر حضارتهم من شعراء عرب أقحاح كما فعل أبو الوليد البحتري (ت 284هـ) المقرب من الخليفة العباسي المتوكل في قصيدته السينية الذائعة المشهورة حينما مر بالمدائن ووقف على آثار الإمبراطورية الفارسية وشاهد أطلال إيوان كسرى فتأثر واعتبر وذهب يطنب في وصفه ويناجي الحضارة الفارسية المندثرة وتحسر عليها وبثها شكواه ونجواه، وابتدأ قصيدته بهذا البيت:
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وترفعت عن جدا كل جبس
ولو كان هذا المديح من شاعر ذي أصول أعجمية لهان الأمر؛ لكنه من عربي صميم انساق وراء تلك الموجة السائدة التي دعمها المتغلبون وغض الطرف عنها الحاكمون، وكان من غلاة الشعوبيين أبو نواس الذي يمت للفرس بنسب من جهة الأم (ت 185هـ) وهو القائل في قصيدته الهمزية المشهورة التي ابتدأها بالتشبيب بالخمر:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
وأسرف في وصف ساعات صفوه مع خلانه وما يضطرب في تلك الأمسيات من لهو وقصف وطرب إلى أن جاء معرضا بالعرب وحياتهم البائسة - كما يدعي - في الصحراء:
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة
كانت تحل بها هند وأسماء
حاشا لدرة أن تبنى الخيام لها
وأن تروح عليها الإبل والشاء
والشعوبيون الجدد في العراق وسوريا ولبنان واليمن لم يكتفوا بالثناء والمديح والإعجاب والاحتذاء فحسب؛ بل ارتموا في أحضان من أعجبوا بهم؛ فتخلوا عن عروبتهم وتاريخهم وثقافتهم ولغتهم وآدابهم واعتنقوا مذهب من أعجبوا به وفتحوا له الأبواب وأشرعوا له النوافذ.
وقديما كان جدهم الخائن الأكبر (ابن العلقمي ت 656هـ) وزير آخر خليفة عباسي (المستعصم) هو الذي فتح الأبواب ومهد الطرق وهيأ البيئة لدخول الغازي التتري (هولاكو) إلى بغداد واحتلالها وإسقاط الدولة العباسية.