د.محمد الدبيسي
تردَّدت كثيراً في أمر قبول تقديم هذا الرجل. ولدي من الأسباب ما يبرر هذا التردد في تقديم هذا الضيف الكريم، الذي عرفته كبيراً وابتنى مكانته في نفسي، وفي نفوس عارفيه كبيراً. ترددت لأن حديثي عنه أو تقديمي له لابد أن يمر بحديثي عن نفسي. واسمحوا لي أن أسرد لكم قصتي معه بإيجاز مخلٍ فأقول:
في ثمانينيات القرن الميلادي الماضي كنت أتابع صفحةً أدبية في صحيفة الجزيرة السعودية عنوانها: (قراءة في مكتبة)؛ كنت طالباً في المرحلة الثانوية، شغوفاً بقراءة كتب الأدب المتاحة في ذلك الوقت، متابعاً للصفحات والملاحق الأدبية في الصحف، وقت كانت تلك الصفحات والملاحق؛ هي مزاج المرحلة الأدبي، أو إن شئت أن أكون دقيقاً؛ هي المعبرة إلى حدٍ كبير عن جلِّ أحوال ذلك المزاج؛ استقراره وتقلباته هدوئه وصخبه. وهي المشهد الذي جلَّى الحالة الأدبية آنذاك.. بكل زخمه وانعاطافاتها ونجاحاتها وإخفاقاتها. وهي شاهدُ المرحلة والنص الموازي لسيرتها ومسيرتها.
في ذلك الحين كانت صفحة (قراءة في مكتبة) تجوالاً سريعاً في مكتبة أحد أصحاب المكتبات. وكان محرر تلك الصفحة, هو الكاتب الصحفي: إبراهيم التركي. وقد استرعى انتباهي حينها أمر اختياره الكتبَ والمكتبات لتكون محور همِّه ومجال اشتغاله دون غيرها من القضايا والاهتمامات - وهو ما بدأ يتضح لي ويتكشَّف فيما بعد وعلى مدى سنواتٍ كنت فيها محظوظاً بصحبته، قارئاً مواظباً على متابعة مقالاته ومؤلفاته.
وفي ذلك الوقت أيضاً أو بُعيده بقليل؛ عاودت قراءة عمودٍ صحفي كان يحرره في الصحيفة نفسها عنوانه: (هوامش صحفية)... يتناوب على كتابته مجموعة من الأدباء والكتاب الأفاضل، وكان يوم تحريره بقلم إبراهيم التركي؛ هو اليوم الموعود لفتى يبحث عن المغاير والمختلف في خضم ما تعبأ به الصحف آنذاك من كتابات منها الجيد والمميز ومنها ما هو دون ذلك, وما أكثر ما هو دون..!
أما كتاباتُ إبراهيم التركي؛ فأفكار موجزة وطروحات متنوعة وتعليقات عديدة في قضايا الفكر والأدب والحياة. كان صاحبُ القلم هو نفسه صاحب الصوت الرخيم في إذاعة الرياض الذي لا يلحن ولا يخطئ. ولا يدفع بك إلى التثاؤب. حيوية وطلاقة وحضور ونباهة متحدث يدرك كيف يجعل المتلقي السماعي حاضراً في أجواء ما يُلقى إليه عبر الأثير. وكان أيضاً معداً ومقدماً للعديد من البرامج المنوعة وقارئاً لنشرات الأخبار.
كان ذلك أول عهدي به.. فإذا ما انصرمت سنين قلائل بعد ذلك؛ ألفيته محرر الصفحات الأدبية في الجزيرة. الذي ما إن رأيت في نفسي القدرة على الكتابة حتى اتخذته مقصداً وملاذاً. فبعثت له بأول مقالاتي الأدبية كان ذلك سنة 1990م فكان بها حفياً ولي كان ناصحاً صادقاً. فشجَّعني ووجَّهني وصوَّب اتجاهي ومنحني فرصة لم ينلها كثير من أترابي في ذلك الحين. وبعضهم أفصح مني لساناً وأقوم قيلاً.
وعندما آنست في نفسي ميلاً للعمل الصحفي الثقافي؛ هاتفته مصرحاً بما فيََّ.. فقال منذ الآن أنت معنا في تحرير الصفحة الأدبية الأسبوعية في «الجزيرة».. أدهشتني وأخجلتني سرعة الاستجابة. وأذهلني ذلك السخاء النبيل. وصاحبه يعلم ويعلم أنني أعلم أنني في ذلك الوقت على الأقل؛ لا أملك مقوماتٍ أو كفاءة أستحق بها كريم استجابته وحسن ظنه. وبدأت أعمل إلى جانبه وبتوجيهه وإشرافه. ومضت السنين فترقَّت تلك الصفحة الأدبية إلى صفحات، فملحقٍ أسبوعي شهدت الساحة الأدبية المحلية بتميز طروحاته وغنى مضمونه وجودة مادته. حتى تجاوزت شهرته المحيط الوطني إلى الفضاء العربي؛ فاستقطب قامات فكرية وأدبية في بلادنا ومن الخليج ومصر ولبنان والمغرب العربي. وأصبح يشار إليه كواحدٍ من أميز الملاحق الأدبية. وذلك بتوفيق الله ثم بحنكة هذا الرجل وحسن إدارته وحكمته في تسيير الأمور. وكان بجوار ذلك الملحق صفحة ثقافية يومية. ولما استقام بناء ذلك الملحق وذاع واشتهر تحوَّل إلى مجلة ثقافية. أرست قواعد جديدة للصحافة الثقافية في طورها الاحترافي وبزخمها الذائع السيار. وقدرتها على المواكبة والتجدد والاستمرار. ومفارقة النمطية في طروحاتها ومحتوياتها.
وكان من حسن حظي أنني عشت تلك التجربة الصحفية وسعدت بنجاحها. وأنا بجانبه محفولاً برعايته ومسدداً بتوجيهه، وهانئاً مسروراً بصحبة نوع نادر من الرجال. رافقته زميلاً وأستاذاً في «الجزيرة» نحواً من خمسٍة وعشرين عاماً. وعندما اخترت التوقف عن العمل في التحرير الثقافي بصورة نهائية؛ قبل بضع سنوات. لم يكن يضجرني أو يكدر صفوي إلا انقطاع تواصلي شبه اليومي معه. الذي كانت تقتضيه تقاليد المهنة وأسعد به شخصياً.. وكان مما يبدد من وطأة ذلك الضجر أنني فزت بمعرفة هذا المثقف الحقيقي، والصديق النبيل. وخرجت مزهواً بسنين طويلة من العمل الثقافي الصحفي كان أجلُّ مكاسبها معرفتي بهذا الرجل وصداقتي له.
وبعد أن مضت السنين ولم يعد للصحافة الثقافية ذلك الوهج؛ بعد أن أُتخمت حياتنا بما تعلمونه من الوسائل والوسائط والمنابر والمنصات. وبعد أن اكتهل أستاذي واكتهلتُ بعده.. ولما يزل أستاذي كاتباً صحفياً تجاوزت تجربته في هذا الحقل ثلث قرن.. ولما يزل صديقاً للكتاب شغوفاً به وصانعاً ماهراً من صُنَّاعه.. ولكن من أي أنواع الكتَّاب هو..؟
للإجابة عن هذا السؤال؛ دونكم ما ينيف على عشرة كتب من أسفاره القيمة التي تجاوزت خمسة عشر؛ كان أولها (سَفرٌ في منفى الشمس..قراءات في اغتراب الكلمة) الذي صدر عام1996م. وكان أول مؤلفاته. ثم (ما لم يقله الحاوي.. قراءات في اغتراب الكلمة) أيضاً. وكأنَّ الرجل مهمومٌ بذلك الاغتراب في آنٍ مبكرٍ من تجربته. يعيش مرارته ويدرك مآلاته ويستشرف أبعاده. يشخِّص أعراضه.. ويحلل أطواره وتجلياته. ثم يلخِّص قراءاته لمجمل تلك الأحوال ويقدم رؤيته فيها.
ومن اغتراب الكلمة.. إلى ثقافة التخلف. فالثانيةُ مرهونةٌ بالأولى داءان في تكوين العقل العربي وسقمان يسكنان جسد ثقافتنا. أو كما بدا لي مضمون كتابه: (كان اسمه الغد.. مقاربات في ثقافة التخلف). إلى كتابه الآخر (وفق التوقيت العربي.. سيرة جيل لم يأتلف).. وغيرها.
وكانت اللبنات الأولى والعجينة البكر لهذه المؤلفات؛ مقالاته الأسبوعية في صحيفة الجزيرة؛ التي بدأت منذ عام 1985م ولا زالت مستمرة حتى الساعة. والتي تنبئ في مجملها؛ عن هموم ورؤى هذا العقل وشواغله.
ومن اللبنات الأولى وما بعد الأولى في تكوينه المعرفي؛ قراءاته النوعية في حقول المعرفة. ولا سيما الفكر الفلسفي. وقضايا الواقع العربي المعاصر بتجلياته كافة.
ثم أقول: إن الشاب الصحفي الذي لم يكن قد تجاوز الثلاثين عاماً. والذي كان يحرر صفحة (قراءة في مكتبة).. هو نفسه هذا الرجل المكين. الذي جاوز الستين اليوم. وهو هذا العقل الذي يجلس أمامكم. عقلٌ بدأ بالتكوُّن منذ ستين عاماً؛ في بيت علم وفضل في إحدى ضواحي عنيزة حاضرة القصيم. بيتٌ كان ربُّه - عليه شآبيب الرحمة والرضوان - ممن أسَّس هذا العقل ورعى طفولته. ونمََّى قدراته وشجَّعه. وآمن بتوجهه وأمَّن مسيرته. واختلف معه واتفق. وصحبه وصاحبه. ودفع به إلى التكون والتطور والنضوج والاكتمال.
وأقول: هذا إبراهيم بن عبدالرحمن العلي التركي العمرو. العقل الذي عرفناه في ما سطَّره وخطَّه من كلام، إن شئتم كتاباً في عشرات الصفحات. وإن شئتم مقالاً في كلمات وكلمات: بفكره المستنير ورؤاه الحيوية والحية. وطروحاته المنتقاة وأسلوب كتابته الفريد. كتابته التي يدوزن إيقاعها على مقامٍ آسرٍ. يمزج بين جدَّة الفكرة وحداثة التعبير.والبيان الأسلوبي الذي يميزه عن غيره من الأساليب. بتلك المقدرة الكتابية التي تحسن عرض المعنى البعيد. وتشدك إلى المعنى القريب. توجز وتُثري. وتختزل وتغني. وتصرِّح وتوحي..في مقاماتٍ تقتضي هذا النوع من التعبير أو ذاك. فيها إيماء المجاز وبراعة الإيجاز وسحر التوقيع. وثراء اللغة ودهشة الحكاية وروعة البيان.
كتابةٌ تفصِّل في المشكلات والإشكالات. وتعرِّي المستتر من المحبطات والإخفاقات.. وتحفل بالإشراقات والنجاحات. تشخص الواقع بشفافية ومسؤولية ومصداقية؛ دونما اندفاع أو انمياع. أو انفعال أو افتعال. ودونما اجتراء أو اجتزاء. كتابةٌ غير متقوقعة في حيز إقليمي ضيق. ولا منكفئة على شواغل شخصية محدودة.. بل متجاوزة للحدود والقيود. منفتحة على فضاء عربي رحيب.
وإذا ما انتهى إلى دائرة همِّه الوطني؛ فهو العليم بتفاصيله وخباياه. والخبير بمحتواه وفحواه. وفي كلا الحالين: وكما تنبئ طروحاته: فهو لا يضع حلولاً بقدر ما يتأمل ويحلل. ويفرز ويتساءل. لأن التأمل طريق اليقين. ولأن المعرفة سؤال..؟. أروي عنه - أدامه الله - قوله وقد سئل في حوار صحفي: هل نلوم زماننا أم العيب فينا..؟ فقال:
(الزمن يُدين لمن يعنيه التحدي.. فيتولد عنده التصدي.. ونحن بين ترف ألهانا. وشظف أشجانا.. فلا نحن استجبنا.. لكننا استربنا..وبتنا أسرى تنظيرٍ منغلقٍ ومندلقٍ ومستعمر ومستأثر. فالعيب فينا يا صديقي). انتهى جوابه. ويبقى سؤاله.. وإليه ومنه يبدأ الكلام. والسلام.
...
تقديم د. محمد الدبيسي لمحاضرة د. إبراهيم التركي عن مضادات ومصدات الملاحق الثقافية في نادي المدينة المنورة الأدبي (مساء الأربعاء 1-1-2020 م)