الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
جاء الإسلام ليرفع كرامة الإِنسان، واقتضت حكمة الله أن يكون بقاؤه عن طريق التزاوج بين الذكر والأنثى بالنكاح الشرعي لتسود بينهم المودة والرحمة والتعاون على تكوين أسرة تسودها السكينة والطمأنينة والاستقرار.
وفي النكاح تكثير لأمة الإسلام، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم، وسبب للغنى والرزق. وللزواج المبكر فوائد عديدة وثمار يانعة، ولكن في الآونة الأخيرة شهد المجتمع تراجعًا في إقبال الشباب والفتيات على الزواج.
«الجزيرة» ناقشت قضية الزواج المبكر، وأسباب العزوف عنه مع كوكبة من ذوي الاختصاص في مختلف التخصصات الشرعية والاجتماعية والاقتصادية والطبية.. وكانت الحصيلة التالية:
إخوان الشيطان
بداية حذر فضيلة الشيخ رضوان بن عبدالكريم المشيقح المحامي والمستشار الشرعي، مأذون الأنكحة من الإعراض عن الزواج وخصوصًا لمن يقدر على تبعاته؛ لأن ذلك يضر بهم وبمجتمعهم وبالأمة التي ينتسبون إليها ضررًا بليغًا؛ لأنه يشتمل على تحصين الدين، وتحصين المرأة وحفظها والقيام بها، وإيجاد النسل، وتكثير هذه الأمة، وتحقيق مباهاة النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال: (تناكحوا تكاثروا، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة)، والرجل إذا كان قادرًا على الزواج ومطالبه وخائفًا من الوقوع في الفاحشة لو لم يتزوج، فإن الزواج يكون واجبًا في حقه، فإذا لم يتزوج كان آثمًا، لأن الإنسان مطالب وجوباُ بصون عرضه، وتجنب مواقع الشبه والمحرمات، ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، حتى ولو لم يكن خائفًا من الوقوع في الفاحشة فإنه يجب عليه الزواج عند بعض العلماء استدلالاً بظواهر النصوص التي أمرت بالزواج، فقد روى أبو يعلى في مسنده حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لعكاف بن وداعة الهلالي: (ألك زوجة يا عكاف؟، قال: لا، قال ولا جارية، قال: لا، قال وأنت صحيح موسر؟ قال: والحمد لله، قال عليه الصلاة والسلام: فأنت إذا من إخوان الشياطين، إما أن تكون من رهبان النصارى فأنت منهم، وإما أن تكون منا فأصنع كما نصنع، وأن من سنتنا النكاح شراركم عزابكم، وأراذل موتاكم عزابكم، ويحك يا عكاف تزوج، فقال عكاف: يا رسول الله أني لا أتزوج حتى تزوجني من شئت، قال صلى الله عليه وسلم فقد زوجتك على اسم الله والبركة، كريمة بنت كلثوم الحميري).
ونبه المشيقح من المغالات الزائدة في المهور، والإسراف البالغ في الولائم، والقيام بالأعمال والتصرفات الشاذة المنحرفة في الزفاف، لأنها جعلت الطرق مسدودة لكثير من الشباب الذين يرغبون الطهر والعفاف وتحصين الفرج، والمغالات في المهور من أكبر العوائق عن النكاح والحوائل دون تحصين الفروج، وهذا خلاف السنة المطهرة، فإن السنة تخفيف المهر وتقليله، وتخفيفه من أسباب البركة بركة النكاح والوئام بين الزوجين فأعظم النكاح بركة أيسره مؤونة، كما أن عزوف الشباب عن الزواج مؤذن بفتنة وفساد عريض.
الأخلاق الذميمة
وشدد الشيخ الحارث بن سراج الزهراني مأذون الأنكحة بمدينة الرياض على أن العزوف عن الزواج والرغبة عنه ليست من أخلاق المسلمين ولكنها من الأخلاق الذميمة التي دخلت علينا من المجتمعات البعيدة عن هدي النبوات والرسالات فهي تُنَفِّر من الحلال وتزين الحرام. لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من أراد العزوف عن الزواج زهدًا في الدنيا وتفرغًا للعبادة واجتهادًا في طلب ما عند الله من الثواب الذي أعده للمستكثر من القربات من صلاة وصيام وجهاد كما منع عثمان بن مظعون وكما منع الشباب الثلاثة الذين قال أحدهم (لا أتزوج النساء وقال الآخر لا أنام الليل وقال الثالث أصوم فلا أفطر فقال صلى الله عليه وسلم أما أنا فأصوم وأفطر وأنام وأقوم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني).
ويرى الزهراني أن الشباب اليوم يرغبون في الزواج ولكن يصطدمون بعقبات كبيرة لا طاقة لهم بها وأول تلك العقبات المبالغة في المهور وتكاليف الزواج فعلى العقلاء من كل أسرة وقبيلة أن يسعوا في القضاء على هذه العقبات أو تخفيفها ما أمكن، وإن أكثر أو كثيرًا من هذه المبالغات إنما تقع بسبب توكيل الأمور إلى السفهاء من الجنسين. وكثيرٌ منهم بلا بصيرة. وغاية بعض النساء أن يكون زواجها أو زواج ابنتها أفضل من زواج غيرها من قريباتها أو صديقاتها أو معارفها دون تفكير فيما ينفع أو يضر وما يحرم أو يحل، والشريعة حثت على تخفيف المهور وتخفيف تكاليف النكاح روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة) ولو كانت المبالغة فيها مكرمة وخيرًا لكان أسبق الناس إليها محمد صلى الله عليه وسلم وهو لم يفعل ذلك.
زواج مقنن ومعتدل
ويؤكد الدكتور عبدالله بن صالح الحمود أستاذ علم الاجتماع أن للظروف الاقتصادية دورًا مهمًا، ومهمًا للغاية لمواجهة متطلبات الحياة عامة، والاقتصاد هو عصب الحياة، وبدون الاقتصاد يصعب أن تسير الحياة البشرية كما ينبغي، ومسألة ربط الأوضاع الاقتصادية بمصارفة الزواج فهو أمر اعتيادي، بمعنى أن كل مشروع أو أي احتياج من الاحتياجات هي مرتبطة بالاقتصاديات عامة، ولا شك أن لكل مرحلة اقتصادية لها من التجاذبات ما يفترض أن يتأقلم معه الفرد، وإذا تحدثنا عن أحوال المجتمع اليوم نحو متطلبات الإنفاق على الزواج، وقبل أن نتحدث عن الوضع الاقتصادي كعلاقة طردية بتكاليف الزواج، علينا أن نتحدث عن عادات وتقاليد المجتمع، التي من شأنها ما ينعكس على اقتصاد الفرد ذاته قبل الحكم على الأحوال الاقتصادية التي تمر بها أي دولة، فقد تكون أحوال الاقتصاد في دولة ما تسير في أحسن أحوالها، بينما الفرد نفسه هو من يعاني من ضرر اقتصادي، لذا أرى أن الأصل في مسألة فهم مشكلة مواجهة الإنفاق على تكاليف الزواج هي في الأصل تعود إلى معرفة الاحتياج الملح لإقامة مشروع زواج مقنن ومعتدل، وشبه الاحتياج غير الملح أو ما هو خلاف الضروريات، هو أن البعض يضع أمامه عقبات مالية عند التفكير في الزواج، وهي عقبات مع الأسف الشديد ترتبط بكماليات جلها يحوم حول نوع الاحتفالية الباذخة أو إقامة شهر عسل في دولة باهظة التكاليف في خدماتها، أو تتأتى شروط غير منطقية من لدن الزوجة وأهلها، في حال اشترطوا مهرًا مبالغًا فيه، ونحو ذلك.
فمسألة أن تتباهى بعض من الأسر في رصد مبالغ باهظة لإقامة احتفالية الزواج، ويكون جل ذلك يذهب لنفقات لا تعود بالفائدة المرجوة للزوجين، هنا لا يجب القول إن الأوضاع الاقتصادية سبب في عدم تمكين الشباب والشابات من الارتباط الزواجي أو حتى التأخر في الارتباط الزواجي، بينما في اعتقادي وأكون جازمًا أن السبب الرئيس هو المبالغة غير المنطقية نحو توجيه المال في أمور لا علاقة لها ببناء علاقة زوجية تصل إلى بناء بيوت زواجية مبتغاه.
استراتيجية قصيرة
ويتفق الدكتور إبراهيم بن محمد الحسون أستاذ الاقتصاد والإدارة المساعد بجامعة القصيم، رئيس مجلس إدارة الجمعية العلمية للاستثمار والتمويل أن الظروف الاقتصادية بالفعل تقف اليوم عائقًا أمام الشباب والفتيات للزواج المبكر. فقد كان في السابق وإلى وقت قريب كانت الأسرة الكبيرة تتولى تقريبًا كافة أو معظم تكاليف الزواج بما في ذلك مسكن الزوجية وفي أحيانًا أخرى يمتد هذا الأمر لما بعد الزواج.
ولكن الحال اختلف اليوم فأصبحت هذه المساهمة من ضئيلة أو منعدمة نتيجة الظروف الاقتصادية وما تتطلبه تطورات الحياة من مصاريف إضافية لم تكن موجودة في السابق، وفي نفس الوقت ارتفاع في معظم أسعار السلع والخدمات مع وجود نسبة مرتفعة نوعًا ما من البطالة الأمر الذي يصٌعب أكثر ويقف عائقًا حقيقيًا أمام الزواج المبكر، ولذلك من الحلول الواجب تبنيها من قبل القطاع الحكومي وكذلك القطاع الخاص إيجاد وتبني سياسات إستراتيجية قصيرة وبعيدة المدى لمواجهة هذه الظاهرة من خلال إعادة النظر في رفع مستوى الدخل خصوصًا للوظائف المتوسطة وتبني حد أدنى للأجور يتوافق مع مؤشر متوسط تكلفة المعيشة في المملكة، كذلك لا بد من الاستفادة من الزكاة وهذا أحد أهم مصارفها على أن يوجه نحو التكاليف الأولية للزواج، هذا من جانب الإيرادات، أما من جانب المصروفات فإن الظروف الاقتصادية الحالية تتطلب ترشيدًا في معظم نفقات الزواج وما بعده والتركيز على الأمور المهمة وترك الأمور الأقل أهمية إلى ما بعد تحسن الأوضاع بعد الزواج، مع أهمية رفع مستوى الوعي في أهمية تخفيض وترشيد تكاليف الزواج نفسه من خلال البعد عن المباهاة والمحاكاة التي لا تعود على العروسين بأي فائدة.
فوائد صحية
وتكشف الدكتورة ريما بنت صالح الحمادي استشارية أمراض النساء والولادة، رئيس الشؤون الطبية بمستشفيات الحمادي بالرياض، الفوائد الصحية من الزواج المبكر بالنسبة للمرأة تكمن في تحاشي حدوث التشوهات الجنينية وتحاشي حدوث اختلاطات الحمل الخطيرة، التي يمكن أن تشاهد أحيانًا عند الحوامل الشابات ولكن نسبة حدوثها تزداد مع تقدم عمر السيدة الحامل ومن هذه التشوهات مثلاً التشوهات الناجمة عن اضطراب عدد الصبغيات لدى الجنين والتشوه الأكثر شيوعًا هو تناذر داون أو كما يدعى بالمنغولية الذي له علاقة وثيقة بازدياد عمر الأم، ولا سيما التي تجاوزت الـ 40 سنة، وهناك تشوهات جنينية أخرى لها علاقة بنقص بعض أنواع الفيتامينات وقصور الغدة الدرقية لدى الأم وهذا النقص يلاحظ أكثر عند تقدم عمر الأم وكما نعلم أن النضج الجنسي يكتمل عند الأنثى بعمر الثامنة عشرة، وفي العشرين عند البعض منهن ويختلف ذلك حسب الوراثة وبعض العوامل البيئة والجسدية، وسن الإخصاب الأمثل للمرأة يكون بين عمر العشرين وحتى الخامسة والثلاثين لذلك لاأنصح أيضًا بتبكير الزواج قبل الثامنة عشرة.
وبما أن الإنجاب مرتبط بالزواج فالمرأة القوية تنجب أطفالاً أقوياء وأذكياء وفي عصرنا الحالي عصر تطور الطب الوقائي أصبحت الغاية من مراجعة الأطباء ونشر التوعية الصحية هي تلافي حدوث الأمراض والاختلاطات، والإصابة بالداء السكري والسكري الحملي تزداد مع تقدم العمر وتعدد الولادات إذا كانت الأم لديها العوامل الوراثية المهيئة للإصابة بهذا المرض، الذي يعرضها للإجهاض أحيانًا وأحيانًا أخرى لموت الجنين داخل الرحم في الأشهر الأخيرة من الحمل إذا لم يتم العلاج بشكل مناسب وكافٍ وفي أفضل الأحوال يستمر نمو الجنين ولكن بشكل زائد عن الوزن الطبيعي مما يعرض الأم لعسرات الولادة وتأذي الجنين أثناء الولادة وأحيانًا يتم اللجوء للولادة القيصرية حفاظًا على سلامة الأم والجنين وآلام الظهر والمفاصل ونقص التكلس تزداد مع تقدم العمر ولا سيما بعد 40 سنة من العمر مما يجعل من الحمل عبئًا إضافيًا على المرأة ومصحوبًا بالآلام المبرحة التي تزداد مع تقدم الحمل وثقله لا سيما في الأشهر الأخيرة، ولذلك يجب نصح الفتيات بضرورة الزواج المبكر والحمل في سن الشباب قبل أن يفوت الوقت لنساعد جميعًا في بناء مجتمع سليم وصحيح ومعافى جسديًا وفكريًا لنكون من الشعوب المتقدمة والرائدة إن شاء الله، مشيرة إلى أن الزواج المبكر مهم أيضًا بالنسبة للشباب فتقدم العمر يؤثر في الرجل من ناحية الإخصاب والإنجاب وقد وجد أن بعض التشوهات الجنينية مرتبط أيضًا بتقدم عمر الأب مما يسبب حدوث الإجهاض أو ولادة أطفال غير طبيعيين إذا كان عمر الأب تجاوز مرحلة معينة (بعد الأربعين).