ميسون أبو بكر
المسرح هو الفن الوحيد الذي يضعك أمام خشبته وأبطاله وجهًا لوجه، لا دبلجة، ولا منتجة، ولا عين كاميراتية، لا عين إلا عينك، أنت الجمهور، وأنت الحكم. ومنذ زمن المسرح الحقيقي «العيال كبرت» و»مدرسة المشاغبين» و»شاهد ما شافش حاجة» «وباي باي لندن»، وقلة من مسرحيات أخرى، تركنا المسرح أيتامًا بدون مسرح حقيقي، يمتّع بدون تكلف، ويعالج واقعًا مجتمعيًّا بخفة، إلى أن حضرت العرض الرابع والعشرين للمسرحية السعودية «الذيب في القليب» فمنحتني ثقة أكبر بعودة أبي الفنون لدوره الحقيقي، ومكانته التي يستحق.
الشكر الجزيل للفنان القدير عبدالإله السناني على دعوته الخاصة لحضور المسرحية. وليس بغريب عليه الاهتمام بالمثقفين وهو رمز للثقافة، وأحد أبنائها البارين. وقد أمتعنا السناني بأدائه التلقائي في المسرحية رغم دوره الشرير الذي سبقه دوره في العاصوف الذي رغم دقة أدائه، وتجسيده الدور ببراعة، إلا أن جمهوره يحبه ويهوى طلته. وقد تولى السناني من قبل تطوير مسرح التلفزيون، وعودته للواجهة بعدد من الجهود الحثيثة بعد أن نفض الغبار عنه، وتم تنشيطه بعدد من الفعاليات في مكانه المهم في برج التلفزيون بالوشم.
المسرحية التي جمعت أهم أبطال الكوميديا السعوديين الذين تعودنا على رؤيتهم تلفزيونيًّا في الشهر الفضيل حضروا أمام جمهورهم وجهًا لوجه بنص كتبه المتميز خلف الحربي، وأداء كوميدي رائع، جسده هؤلاء الفنانون المتميزون بجدارة.
الفنان ناصر القصبي يثبت دائمًا أنه رقم صعب في عالم الفن، والجميل حبيب الحبيب يلهمنا الفرح، ويمتعنا أي إمتاع بروحه التي تعطر المكان بخفتها، ورشاقة أدائه، وشخصيته المحبوبة على الخشبة وفي الواقع كذلك، وبالثلاثية المتميزة التي يشكلها مع القصبي والسناني. ريماس التي جسدت دورًا مهمًّا في انشغال النساء بالسناب والإعلانات تحضر دومًا كما هي بروح تأبى إلا التحليق والمرح. ثم جميع الفنانين المشاركين بالمسرحية بلا استثناء.
الحضور الذي خشيت من عدده القليل نظرًا للعرض اليومي للمسرحية، وموسم البرد، قلب توقعاتي، وكان يملأ أكثر من 80 % من مسرح جامعة الأميرة نورة حيث مقر العرض.
عنوان المسرحية كان مشوقًا، ومن البيئة الشعبية؛ إذ يُعتبر إحياء لبعض مفرداتها. والنص الهادف وقصة المسرحية كانا يعالجان واقعًا مرَّ به المجتمع السعودي في ظل الانغلاق، ويمر حاليًا بقفزة سريعة في ظل الخروج من الصومعة إلى مجتمع معتدل، يواكب رؤيته، ويوازي البلاد التي سبقته، وأكاد أجزم أنه سبقها؛ فالبنت والولد راشد هنا نموذجان لنمطين مختلفين، نمط المجتمع القديم الذي يعد راشد نموذجًا لشبابه الذين وقع بعضهم فريسة للأفكار المتخلفة والانغلاق القاتل، ثم الواقع الجديد لبعض الشباب الذين تحرروا دون قيد أو سقف لحريتهم.
وحادثة سرقة الخزانة التي كشفت عن خيانة شخص بعيد عن الشبهة، عصيّ على الشك به، هي محور العنوان «الذيب في القليب» التي تعتبر صدمة غير متوقعة، وخذلانًا مؤلمًا.
أمتعني أن ضحكت من قلب، كما تلك الهتافات والتصفيق الحار من فترة لأخرى من الجمهور الذي حضر في صورة عوائل وشباب وأطفال وذوي احتياجات خاصة أيضًا مراعيًا النظام والهدوء، والتفاعل كذلك مع الأبطال الذين بهرني أداؤهم.
الديكورات صُممت ببراعة ورشاقة؛ وهو ما يسهل تحريكها داخل العرض بخفة وبطريقة جميلة.
وقاطرات الطعام والقهوة (food truck) في الخارج لشباب سعوديين بارعين كانت إضافة للترتيب المتكامل للمسرحية الذي كلله الشباب والشابات المنظمون وفائقو التهذيب.
فكرة تغليف الجوال التي أزعجتني عند الدخول أثبتت أنها فكرة ممتازة؛ لا لأنها تمنع تسريب بعض مشاهد المسرحية فحسب، بل لأنها تجبرك على أن تحضر بكل حواسك بعيدًا عن أي انشغال بالجوال أو بالتصوير الذي يُذهب متعة الحدث الأصلي.
خذوا أولادكم لمشاهدة مسرحية الذيب في القليب؛ ليدركوا أن المسرح فن ومتعة وهوية فنية راقية. لا يصح ذوق الشعوب بلا مسرح. ورحم الله مؤسس البلاد الملك عبدالعزيز الذي يذكر في سيرته العطرة أنه تابع عرضًا مسرحيًّا لإحدى المدارس التي زارها.