رقية نبيل
طوال عمري وأنا لا أحتمل العيش دون شيء من الخيال، أعني أنه لا بدّ لي من شخصية مختلقة تعيش في عقلي، كل يوم بعد أن تنتهي الأعباء وتنفد المسؤوليات وأتخلص من أشغالي ألجأ إلى شخصيتي، وأعيش كل ما أحب وما لا أحب أيضًا -وهذا العجيب- من خلالها، وإن كان الخيال محتجباً وراء هموم أو عاجزاً ببساطة عن صنع المزيد منها.. فإلى الرواية ألوذ، تارة أكون مع «هركيول بوارو» محققي الأفضل لكاتبتي الفضلى، وتارة مع «رفعت إسماعيل» بتخاريفه ووحوشه وقلبه المتعلّ، وتارة مع «دانيال ستيل» وكل الدراما الهائلة لشخصياتها المتنوعة ومدنها العديدة المثيرة والرومانسية التي أهواها وأمقتها بين حينٍ وحين.
مجمل القول أن للخيال دوراً وجزءاً لا يتجزأ مني.. كم استغربني في هذا، فالرواية أو التخيل ليسا مادة للرفاهية عندي بل هما عضو حيوي مني، شيء كالرئة التي تمتص لي الهواء من الوجود، أو كالقلب الذي يمد أطرافي بنبضها، أو كالعين التي تبصر لي الكائن أمامي، شيء لا أستغني عنه البتة، أعيشه مرارًا وتكرارًا وأردد حادثاته كما لو أنها واقعة أكثر من الواقع الذي أعرف وأحيا فيه، وكلما فكرت في الأمر وجدت غرابةً شديدة في هذا الاستمتاع الجارف الذي ألقى من وراء الإبحار في خيالاتي، أحيانًا أخاله مرضًا، لكن أوليس كل كاتب به مريض؟.. ألم يكن جزءًا لا يتجزأ من هؤلاء الكتّاب الذين سافرت أقلامهم وكلماتهم لكل أصقاع الدنيا ولما وراء البحار والبلدان، نجيب محفوظ والآلاف من شخصياته التي لطالما احتشدت في رأسه العجوز، جبران خليل جبران الذي حاور أزهار البنفسج وعناقيد العنب المدلاة من أشجار الطبيعة.. ستيفين كينج والرعب الذي حمله في صدره صغيرًا ترجمه لنا عشرات الروايات المخيفة، كاثلين رولنج وقلعتها السحرية وفتاها هاري بوتر وعالم فنتازي عملاق وشديد التشابك تكون في رأس خيالاتها.
قالوا: «احلم بالسماء لكن لا تنس أن قدميك على الأرض».. ليس عيش الخيالات بالأمر الذميم طالما ترى موقع قدميك على أرض المجتمع الذي تعيشَ واقعه، شجعوا أطفالكم على التخيل متى ما رأيتم منهم مقدرة فائقة على نسج ملايين القصص، لكن بدلاً من نعته بالكاذب، أحضروا -أعزائي الآباء- قلمًا ودفترًا وضعوهما بين يديه الصغيرتين، عرفوهم على هذه المادة السحرية الفريدة من نوعها والتي تدعى: «التأليف».