كيف تصرخ دون أن تفتح فاهك؟ كيف تملأ الهواء زعيقًا وصخبًا واحتجاجًا وشفتيك مطبقٌ مخيطها؟ كيف تطلق العنان لمهرجان الغليان في جوفك وترسل نذرًا يسيرًا من الحريق المستعر بداخلك إلى الفضاء الخارجي دون أن يعرف أحد؟ دون أن يسمعك إِنسيّ؟ دون أن يلتفت الحشد المترقب غضبتكَ من حولك؟
أن تطبق فاهك وكل العوامل أمامك تدعوك لتفتحه وتواجه النيران بمثيلتها، أن تشعر بوطأة الظلم صخور جبلٍ تتدحرج فوق قلبك، أن تحترق عيناك بالملح الأبيّ المحتبس وراءهما، أن تتجرع مرارك وسخطك وتزدريهما علقومًا شائك في جوفك، لعل هذا ما يدعونه بـ«كظم الغيظ»، أمرٌ جللٌ عسير، لا يقدر على حِمْله الثقيل خلا ثلة فريدة من الناس، لهذا رقّاهم جلّ علاه إلى بوتقة «المحسنين».
إن دفع السوء بالحسنى، وابتلاع الشتائم أو الإعراض عنها، لمطلب شدّ ما نحتاجه اليوم، فمع انحسار الأخلاق عن أزقة شوارعنا، صار لنا في كل ركن شجار وعنف وقذائف ألسنة تهوي كيف تشاء فوق من تشاء! الكل يزعق ويحتج صارخًا، العرباتُ في الطرقات، الصفوف الممتلئة حتى آخرها، البيوت المغلقة بين أفرادها، صارت صفة الحِلْم ضربًا من الخيال، والصبر على الأذى استحال إلى سلعة نادرة، وقصص الأولياء الصالحين الذين عاملوا مسيؤوهم بكل حسنى وابتسموا في وجه الباصقين عليهم، هاته الحكايا بات تدوالها كتدوال الأساطير، قصصًا منسيّة، حكايا غريبة تمامًا عن وجه واقعنا المعاصر.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}، إن الثبات في الأذى ليست صفة أو طبعًا يهبط من السماء على القلوب فيسكنها، بل هو أولًا وآخرًا جهاد، وصبر، واحتساب أجر، وإمساك لسانٍ وجوارح، ثم هو قبل أي شيء إيمان عميق يتغلغل إلى الروح فيبهت على كل عملها وقولها، حتى يعوّد الإنسان لسانه ألا يقول سوى ما يرضي بارئه وتألف الجوارح المكث في ظلال الرحمن، لا شيء عنها يصدر فيه غضبة له تعالى، أبدًا.
نسأل المولى أن يجعلنا منهم، من ثلة الآخرين، السابقون السابقون، المقربون إلى رحمة الله تعالى الفائزون بفردوسه الأعلى، الذين يسيرون في الأرض عفوًا وعن الجاهلين إعراضًا وللإسلام خير واجهة وعلامة وتمثيلا.