د. محمد بن إبراهيم الملحم
دعونا نتأمل في بعض المعلومات المهمة من دراسة «تاليس» TALIS المصاحبة لاختبار بيزا 2018 ومنها بيئة التدريس والمعلمين، فقد سألت الدراسة المعلمين عن أية فعالية حضروها للتطوير المهني للتدريس خلال السنة الماضية وكانت الإجابات أن 86 % بالمائة من المعلمين أجابوا أنهم حضروا، والمعدل الدولي العام كان 94.5 % وهذا يعني أن معلمينا لديهم فرص جيدة للتعلم والتطوير الذاتي (كميا) ولكن ماذا عن قيمة هذه الفرص من الناحية النوعية..؟ سواء في محتواها أو تقديمها أو حتى في تطبيقها لاحقاً في الفصل.. فنحن لا نرى أثراً لها على الناتج التعليمي النهائي! نضع هذه النتيجة أمام المؤسسة التعليمية لتعيد تقييم التدريب لديها وتحرص على الاستثمار الأمثل لما يبذل من أموال في هذا السبيل بما له أثر وناتج حقيقي ينعكس على الطالب، وأنا هنا لا أتحدث من منطلق هذه الأرقام فقط (مع أن لها دلالتها) ولكن أيضاً من واقع خبرتي الطويلة في هذا المجال، حيث طالما كنت أنادي بأهمية «قياس الأثر» للدورات التدريبية وحسن انتقاء المدربين وحبك الحقائب التدريبية من الواقع لا من النظرية فقط، ولكن الاستجابة ضئيلة جداً لا تكاد تذكر وهي مجرد مبادرات فردية لا أكثر.
الدراسة تقول أيضاً إن غالبية المعلمين أصغر سناً من أقرانهم في الدول الأخرى فمتوسط عمر المعلم في المملكة هو 37.8 سنة بينما المتوسط الدولي هو 44 سنة، وتقول نفس الإحصائية إن نسبة المعلمين الذين أعمارهم أكبر من 50 سنة لا تتجاوز 5.5 % وبالمناسبة فلقد استعرضت هذه الإحصائية لبقية الدول ووجدت أنه لم توجد سوى دولتين أقل من 10 % هما السعودية وتركيا فقط، أما الدول الغربية والآسيوية المتقدمة تعليميا فهذه النسبة تتراوح من 25 % إلى 35 %، بل إن إستونيا التي حققت أفضل صعود مؤخراً بلغت هذه النسبة فيها 53 % ومتوسط أعمار المعلمين فيها 49 سنة، وهذا يعني أن فئة المعلمين لدينا ذوي الحكمة وخبرة الحياة يغادرون المهنة في أقرب فرصة وهي علامة غير مضيئة وغياب لعامل القوة الذي نراه لدى مجتمعات التعليم الأخرى، إن مقولة أن تكون القوة العاملة شبابية ليست بالضرورة صحيحة على الدوام، وفي التعليم على الأقل فمن الواضح أن المعادلة مختلفة، كما أن عطاء كبار السن في مهنة التعليم يمكن أن يستمر طالما أن المؤسسة توفر لهم الظروف المناسبة والتقدير الذي يستحقونه، وبالنظر إلى الوراء اليوم وتأمل فقدان عدد كبير من الموارد البشرية المدربة والمؤهلة من المؤسسة التعليمية (الطاردة وظيفيا) نجد أن هذه النقطة بحاجة إلى وقفة تأمل عميقة وفهم واضح ومحاسبة للذات، وعندما أقول إن المؤسسة طاردة وظيفياً فلا أرمي إلى الرواتب والجوانب المالية، بل إلى بيئة العمل غير الصحية، حيث التغير المستمر للأنظمة والتعليمات والتباين الشديد بين الممارسات نتيجة للتغييرات المتلاحقة للقيادات سواء لمديري المدارس (ما يسمى بـ تدوير القيادات) والمشرفين ورؤساء الأقسام أو حتى للمستويات الأعلى، فالأعلى كل هذه العوامل هي التي تهدد استقرار المعلم وراحته النفسية في بيئة العمل فيضطر إلى مغادرتها مع محبته لمهنته ورغبته في الاستمرار لكنه يفضل المحافظة على ما بقي من صحته أو راحته أو حتى كرامته في بعض الأحيان فيغادر مكتفياً بجزء من راتبه، هذا عد الهجرة إلى الأعلى، حيث يقبل بعضهم على المواقع القيادية مع أن عطاءهم في التدريس مميز ولا يمكن تعويضه ولكن بسبب الضغوط الإدارية غير المنطقية يجد أن الهروب للأعلى كمشرف أو مسؤول هو حل للأزمة حتى لو لم يكن هو أصلاً شخص قيادي أو العملية القيادية من طموحاته يوماً ما.
في نفس السياق فإن متوسط أعمار مديري المدارس لدينا هو 42 سنة مبتعداً جداً عن المتوسط العام وهو 52 سنة وبهذا فإننا آخر دولة في السلم عند ترتيب الدول بالأعمار تنازلياً، بل إننا الدولة الوحيدة التي لديها نسبة المديرين الذين أعمارهم 60 سنة فأكثر هي صفر %، هذا الوضع الغريب ليس تميزاً بقدر ما هو إشكالية في فهم المؤسسة التعليمية لقيمة المدرسة «الاجتماعية» وحاجتها إلى قائد حكيم عاقل محنك صقلته التجارب وأهلته الخبرة العميقة ليتولى شئون مدرسة بها مئات الطلاب وعشرات المعلمين.. إن قيادة الشباب مطلب ليحصل لهم التدريب والتأهيل وليأخذوا فرصتهم في السلم القيادي، ولكن غياب الشيوخ تماماً عن هذه الوظيفة «الاجتماعية» التوجيهية المهمة أمر يدعو لإعادة النظر في تصنيف فهمنا ونظرتنا إلى المدرسة، والأمر لا يتعلق بالسن فقط، ولكنه مرتبط طبعاً بالخبرة التعليمية والرؤية التربوية لدى هؤلاء القادة كبار السن، والذين يفترض أن تنعكس خبرتهم وإمكانياتهم ومهاراتهم على المعلمين لديهم.
سأقول كلمة صريحة هنا أهمس بها في أذن الوزارة الكريمة: إذا كان الجيل السابق من الشيوخ لم يثبتوا جدارتهم في القدرة والمعرفة التربوية والمهارات التعليمية التي ترضي طموحكم، فهل أعددتم خطة لشيوخ المستقبل الذين هم اليوم مديرو مدارسكم أو حتى الذين هم معلمون مؤهلون قيادياً (حسب ملاحظاتكم ورصدكم) ليكونوا مديرين ملهمين غداً عندما يصبحون شيوخاً في مؤسستكم؟.. هل أعددتم هؤلاء للقيادة الناجحة وهل أعددتم لهم تنظيماً أو نظاماً يحافظ على ارتباطهم بالمهنة وبقائهم في مؤسستكم؟.. وللحديث بقية.