حسن اليمني
صحيح أنه في العام 1952م لم تكن الدولة العربية بالمجمل كما هو حالها اليوم والقفزة هائلة وكبيرة لكن اليابان وإن لم تكن بنفس التاريخ أكثر تطور منها إلا أن حالها اليوم لا يقارن إلا بكبار الدول الصناعية.
الأمر ليس مقارنة في مسار التقدم والتطور بين (الدولة العربية واليابان) عقب الحرب العالمية الثانية, فاليابان تعرضت لهزيمة ساحقة استسلمت على أثرها وانصاعت للمنتصر ثم صادقته وتحالفت معه بينما انتقلت الدولة العربية من الاستعمار إلى التعاون بصداقة ندية بمعنى صداقة مصالح ومنافع لا تبعية أو استسلام أو هكذا في الظاهر, لكن السؤال الذي يتطاير في الذهن حيال التمعن في الصورة بين الاثنين واستثمار العقود الخمسة الأخيرة من القرن الماضي هو كيف صارت اليابان دولة منتجة وبقيت الدولة العربية مستهلكة برغم الفرق الهائل في الموارد والثروات الطبيعية التي تميل لصالح العربية وتفتقر لها اليابان؟
منذ سيطر العسكر على إدارة امبراطورية اليابان بداية القرن الماضي كان الطموح الصناعي العسكري واضح وظاهر على حساب تنمية وتطوير البنية التحتية والرقي برفاهية الفرد الياباني في حين كان الاهتمام بتثبيت الحكم وتوطيد أركانه بتأسيس البنى التحتية وتوفير الرفاهية للفرد العربي في المدن الكبيرة مثار الاهتمام للدولة العربية مما سارع في تحقيق هذه الأهداف بسرعة معقولة خاصة في دول الخليج العربي ما منحها السبق على اليابان في هذا المجال في حين تعثرت العسكرية اليابانية في الحرب العالمية الثانية ووقعت صك الاستسلام للقوة الأمريكية ليصبح هذا الحدث نقطة تحول كبيرة نقلت اليابان من دولة نامية إلى صناعية اقتصادية عالمية نال منها الفرد الياباني رفاهيته التي تكاد تكون متكاملة مع بنى تحتية تجاوزت فيها كثير من الدول المتقدمة, الأمر الذي يستوقف المتأمل لبحث سر تقدم اليابان الهائل في التقنية والإنتاج وتأخر الدولة العربية رغم توفر الإمكانات الطبيعية وأزعم أن الثقافة العقدية ربما هي أحد أهم مواد هذا التمايز.
كثيرون منّا لا يعرف عن اليابان إلا علو الكعب في التقنية والإنتاج والدقة في الانضباط بيد أن هذا حديث العهد ونتيجة هزيمة قاسية قبل خمسة عقود وإلا فإن إمبراطورية اليابان ما كانت تختلف عن دولنا العربية بل إن مصر كانت متقدمة عليها بكثير, سنحت لي الفرصة لأقرأ عن تاريخ اليابان الاجتماعي ومن خلاله شعرت كأني كنت أعيش هناك منذ العام 1935م فزرت القرى والضواحي والمدن وسكنت في أكواخ الأواح على سفوح الجبال بين الغابات وسهولها قرب شواطئ البحار وتجولت في الأزقة والشوارع الترابية وعانيت من ظلام الليالي التي لم تعرف الكهرباء ولا شبكات الماء والصرف بل ورأيت الفقر بأدق صوره المدقعة في بيع الأبناء والبنات على الميسورين أو حتى دور الدعارة والملاهي الجنسية لسد رمق الحياة.
راقبت الهلع وحياة الناس في ظل حرب مدمرة سقطت فيها قنبلتان نوويتان على رؤوسهم ثم إقامة الاحتفالات والسهرات للأمريكيين بحضرة الراقصات وبائعات الهوى ومدى الصحبة والصداقة التي تأصلت بين المنتصر والمهزوم إلى أن صارت اليابان كدولة من أقرب وأصدق حلفاء أمريكا دون عقد وكأنما لم تكن بينهما حرب مدمرة أودت بحياة مئات الآلاف من البشر, أمر خارج المنطق العربي على الأقل فلا ثأر ولا انتقام بل انصهار واندماج تخلص فيه اليابانيون من التخلف والتأخر إلى قمّة التطور والتقدم (المادي) وكذلك شبه الاستقلال السياسي والاقتصادي, وحين أنظر إلى حال القطر العربي بعد خروج الاستعمار وإلى أين وصل لا أجد منطقا للمقارنة, الثقافة الوجدانية أو العقدية في وجدان النفس تبدو هي المحرك والدينامو المفعل أو المنشط لتحقيق الغاية والهدف.
حين أتحدث عن الدين فلا أقصد الإسلام ذاته وإنما العقيدة والديانة التي تلهم الروح وتسند إرادة الفرد في الاتجاه والتحرك, برغم الديانة البوذية في اليابان إلا أن المال هو المعبود الحقيقي وهو الذي يحقق متطلبات الفرد ويمنحه الرفاهية والغنى وليست المعابد إلا مظهر من المظاهر المألوفة والمعتادة كوجود البقالة والصيدلية ومحطة البنزين ليس أكثر, المال والحصول على المال يتطلب الفلسفة «المكيافيلية» للنجاح والعقل البشري إن لم تحكمه ضوابط وقواعد قاهرة فهو مارد لا يصعب عليه شيء ويكفي التلميح للمعنى لمعذرة التخلف العربي الذي تأخر كثيرا عن النهوض إلى الآن وما ذلك إلا لضياع الغاية الوجدانية في الفرد والأمة على حد سواء فلا الإسلام ولا المال ولا العروبة ولا التاريخ بل صرفنا العقود السبعة الماضية بين الاشتراكية والرأسمالية والشيوعية والديمقراطية الديكتاتورية وكان الوصول إلى الحكم بحد ذاته هو النصر وعلى الأمة أن تصفق للزعيم.