لا شك أن إعلان وزارة العدل لقرارها الذي يمنع مأذوني الأنكحة من إجراء عقود الزواج لمن تقل أعمارهم عن 18 سنة سوء كان ذكرًا أو أنثى، وأن تكون عقود الزواج من قبل المحكمة المختصة.. يعد قراراً سليماً سيكون له انعكاسات شرعية واجتماعية وصحية إيجابية تتوافق مع نظام حماية الأطفال وحماية البناء الأسري وضبط توازن ظاهرة الطلاق. ومعروف أن كلمة (قاصرة) تعني كل طفل أو طفلة لم يتجاوز الثامنة عشرة بموجب المادة الثانية من نظام اتفاقية حقوق الطفل التي تم اعتمادها بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 44/ 25 المؤرخ في 2 نوفمبر 1989هـ, وبما أن زواج القاصرات - الذي يعني في مفهوم علم الاجتماع الأسري: «العلاقة الزوجية غير المكافئة التي تنشأ في سن مبكرة، وتفتقد للاستقرار النفسي والروحي والعاطفي والأسري»-.. لا يُعَدُّ في مجتمعنا ظاهرة بل قضية موروثية اجتماعية تزداد معدلاتها في القرى النائية والهجر والبادية. ومجتمعنا السعودي وتركيبته الثقافية من المجتمعات الإنسانية التي تشهد وجود مثل هذا النوع من الزواج خاصة داخل نسق التركيبة القروية وموروثها الاجتماعي التي تدعم هذا النمط من الزواج اللاتوافقي.. وتراه مقبولاً في العرف الثقافي القبلي. وهناك خلط ثقافي بين «الزواج المبكر» و»زواج القاصرات» في المفهوم العربي والإسلامي, مع أن هناك فرقًا بين المفهومين.. فالزواج المبكر في الإسلام الذي ينظر للمرأة على أنها إنسان له كينونته وكرامته.. مستحب ومبارك فيه وليس واجبًا بل مستحب بحسب الشرع الإسلامي الذي لم يحدد سنًا معينًا للزواج سواء للشاب أو الفتاة, بل تركه للعرف الاجتماعي والأدبي.. بينما زواج القاصرات بالمعنى الحقيقي من الناحية الطبية والعلمية هو زواج قبل بلوغ الطفلة المتزوجة (فسيولوجيًا وسيكولوجيًا ووجدانيًا وفكريًا).
ويعد - في الوقت ذاته - سلبًا لحقوق الطفلة, وقد ينبري البعض ويقول إن النبي محمد -صلى الله وعليه وسلم- تزوج عائشة -رضي الله عنها- وهي بنت تسع سنين.. نعم تزّوج الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام بأم المؤمنين رغم صغر سّنها، ولكن لم يدخل عليها إلا بعد بلوغها, وبعد أن دخلت مدخل النساء ونضج رشدها وفكرها ووعيها المتزن. هذا فضلاً عن الخصائص التي اختص بها (سيد البشرية) عليه الصلاة والسلام دون غيره من الأنبياء. ولا شك أن هناك عوامل وأسباب تؤدي بالطبع إلى زواج القاصرات.. كالجهل والأمية التي تنتشر بين بعض أولياء الأمور الذين يعيشون بالذات في القرى النائية والبادية، فيقومون بتزويج فتياتهم القّصر في سن مبكرة غير مدركين أن الزوجة القاصر لا تستطيع الحمل وتكوين أسرة وتربية الأبناء ورعايتهم, كما تدخل فيها عوامل اقتصادية.. كالفقر المدقع والعوز والرغبة في التخلص من الأعباء المالية للبنات في سن مبكرة. أيضاً من الأسباب تساهل (بعض) مأذوني الأنكحة وإصرارهم على إتمام مثل هذه الزيجات بحثًا عن (المال) في كل الأحوال دون مراعاة للآثار النفسية والصحية والجسدية والاجتماعية لقاصرات السن, كما تشكل العوامل الاجتماعية سببًا رئيسًا في انتشار مثل هذا النوع من الزواج اللامعياري في نسيجنا المجتمعي.. كوفاة أحد الوالدين أو كلاهما, أو طلاق الأم وانفصالها, ورفض بعض الزوجات تحمل مسؤولية وتربية بنات ضرتهن والتخلص منهن بأي وسيلة حتى وإن خالفت القيم الاجتماعية والأعراف الإنسانية, إلى جانب الموروثات الاجتماعية في التركيبة الثقافية القبلية والقروية التي تدعم مثل هذا المظهر من الزواج اللارتباطي، كما تدخل العوامل الثقافية في سياق التعزيز.. فثمة توجّهات ثقافية تقليدية مؤيدة لزواج القاصرات حيث يرى البعض في معظم المجتمعات العربية والإسلامية.. أن الإسلام يحث على مثل هذا الزواج.. وهنا يبدأ الخلط بين مفهوم الزواج المبكر وبين زواج القاصرات الذي أسهم في خضم هذه الرؤية الضبابية في انتشار ما يسمى بزواج القاصرات في معظم المجتمعات العربية والإسلامية وليس فقط مجتمعنا السعودي.
والأكيد أن معضلة (زواج القاصرات) لها آثار سلبية وتداعيات خطيرة ربما تلقي بظلالها على النسيج الأسري وأيضاً على البناء الاجتماعي واتجاهاته الوظيفية.. إذا اتسعت دائرتها المظلمة.. فهذا النوع من الزواج الذي يُعَدُّ عنفًا «نفسيًا واجتماعيًا ورمزيًا وبدنيًا ولفظيًا وصحيًا».. قد يتمخض عنه بعض الأمراض النفسية مثل الفصام والاكتئاب والقلق والاضطرابات الشخصية والمخاوف المرضية للطفلة القاصرة, كما كشفت التقارير الطبية ومعطياتها المهنية عن وجود آثار وأضرار صحية وجسدية للزوجة القاصر.. منها ازدياد شبه الإصابة بمرض هشاشة العظام وارتفاع حاد في ضغط الدم مما قد يؤدي بالتالي إلى فشل كلوي ونزيف وحدوث تشنجات وزيادة العمليات القيصرية نتيجة تعسر الولادات المبكرة في العمر، وارتفاع يسبب الوفيات نتيجة المضاعفات المختلفة مع الحمل وظهور التشوهات العظمية في الحوض والعمود الفقري بسبب الحمل المبكر, أما عن الجانب الاجتماعي فإن مثل هذا الزواج غير المتكافئ من آثاره كثرة المنازعات والعنف المنزلي والتهميش الاجتماعي وحدوث الطلاق, وبالتالي تشتت الأبناء أو انحرافهم بعد إهمال تربيتهم وتنشئتهم التنشئة السليمة نظرًا لعدم توافق وتكافؤ هذا الزواج بالأصل «عاطفيًا ونفسيًا وفكريًا», ولضبط توازن هذه القضية الاجتماعية التي تتنافى مع كل الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الطفل, والأعراف الإنسانية وقيمها الحضارية.. ينبغي سن نظام قانوني واضح وصريح يحدد فيه سن الزواج المناسب للفتاة ويشترط فيه البلوغ والنضج الجسدي والعقلي والفكري.. مع وضع نصوص تجريمية للآباء الذين يزوجون بناتهم القاصرات لرجال يكبرونهن في السن بشكل كبير جدًا، لاعتبارات اجتماعية، أو دوافع اقتصادية, وأيضًا لمن يعقد النكاح من مأذوني البحث عن المال..!! وأخيراً وليس بآخر التنسيق بين السياسة الاجتماعية والقضائية التي تتخذها الدولة لمعالجة الأسباب المؤدية إلى (زواج القاصرات) وضبط تجاوزاتها الحقوقية وانتهاكاتها الإنسانية.
** **
باحث أكاديمي - متخصص في القضايا الاجتماعية والأسرية