عبدالمجيد بن محمد العُمري
مع تتابع الأمطار ونزول الخير على بلادنا بوجه عام وعلى منطقة نجد بوجه خاص، اكتست نجد حلل الربيع وظهرت الزهور التي تغنى بها شعراء العربية على مدى قرون طويلة، ومن تسنى له الخروج للرياض والفياض المريعة فسيعذر الشعراء في تغنيهم بنجد، وسيعلم أنهم لم يبالغوا في وصفهم وعشقهم لهذه الأرض بل أبدعوا في رسم لوحات فنية نقلت الواقع كما ينقلها الرسام والمصور المبدع الاحترافي، وخلفت الصورة الذهنية عن هذه المنطقة التي لا يراها البعض إلا صحراء قاحلة.
وثمة حقيقة ثابتة في تاريخ الأدب والتراث العربي بأنه لا يمكن أن تقرأ كتابا في تراث العرب، إلا ووجدت لنجد النصيب الأكبر والحضور الأوفر فيه، ولا تطالع كتاباً من كتب الأدب والرحلات، إلا ووجدت وصف نجد يحتل مكانة بارزة فيه أيضاً، فقد أحب العرب نجداً فتغنوا بمفاتنها، وقالوا فيها أجمل القصائد وأعذب الألحان، فكيف وقد أنجبت فحول الشعراء أصلاً.
لقد أخرجت نجد شعراء يشار إليهم بالبنان منذ أيام الجاهلية امرؤ القيس، والأعشى، وزهير وعنترة وعمرو بن كلثوم، وعلقمة الفحل وآخرين في العصر الجاهلي، وفي العصر الإسلامي الزاهر جاء جرير بن عطية الخطفي وابن الطشرية، والبحتري، وبكر بن النطاح، ويحيى بن طالب، غيلان بن عقبة العدوي المعروف بـ (ذي الرمة)، ومالك بن الريب، وقيس بن الملوح (مجنون ليلى)، وجميل بثينة، وكثيّر عزة وغيرهم من الشعراء الذين لا يتسع المجال لذكرهم، وقد أورد الباحث والأديب الأستاذ محمد بن عبدالله الحمدان صاحب مكتبة قيس في كتاب أصدره قبل ثلاثين عاماً (صبا نجد) بأن أكثر من ثلاثمائة شاعر عاشوا في فترات زمنية مختلفة وتغنوا في نجد وفي صباها (صبا نجد..هي الريح القادمة من الشرق ذات النسيم الطيب والهواء العليل)، كما عبر الشعراء عن وجدهم لها والحنين إليها حين التغرب عنها.
ونجد لم تشغل أبناءها وتستهويهم شغفاً وحباً فكل من عاش في نجد أحبَّها واستطاب عيشها، ومن فارقها حَنَّ لها وبكى عليها، ولكن الأمر تعدى ذلك لغيرهم من الشعراء والأدباء الذين تغنوا بها طوال القرون الماضية وكثير منهم لم يطأ أرضها ولم يشتم أزهارها البرية ولم يلفحه سمومها وحرارتها صيفاً ولا صقيعها شتاءً، وقد ذكر ياقوت الحموي صاحب (معجم البلدان) وهو أشهر مؤلف في هذا الفن، أنه لم يذكر الشعراء موضعاً أكثر مما ذكروا نجداً، ولم يتشوقوا لأي أرض، كما تشوقوا لأرض نجد، وممن أكد على هذه المكانة أيضاً الشيخ علي الطنطاوي في كتابه: (نفحات من الحرم) حينما قال عن نجد: «وهل في معجم القومية كلمة أظهر وأيسر من نجد دار العرب وملهمة الشعراء ومثابة الهوى، هل في الأرض كلها على رحبها واد أو جبل... قال فيها الشعراء (شعراء كل أمة) مثل الذي قال شعراء العرب في نجد من شعراء الجاهلية الأولى إلى هذه الأيام، لا يضيق مكان القول في نجد، ولا يفرغ الشعر من الكلام عن نجد» وغيرهم كثير، ولمن أراد الاستزادة فهناك مقالات وكتب ورسائل تزخر بها المكتبة العربية، ومن بين الباحثين السعوديين الذين رصدوا عشق الأدباء لنجد الأستاذ محمد الحمدان في كتابه (صبا نجد في الشعر العربي)، والأستاذ خالد بن محمد الخنين في كتابه (نجد وأصداء مفاتنها في الشعر) في ثلاثة مجلدات.
ومما قاله بعض الشعراء عن نجد، ونبدأ بقيس بن الملوح (مجنون ليلى) والذي كان مجنوناً بنجد أيضاً:
أأكرر طرفي نحو نجد وإنني
إليهِ وإن لم يدركِ الطرفُ أنظرُ
حنيناً إلى أرضٍ كأنَّ ترابَها
إذا مُطِرت عُودٌ ومسك وعنبرُ
بلاد كأن الأقحوان بروضة
نور الأقاصي وشي برد محبّر
ويقول الشاعر ابن الدمينه الخثعمي، (أو ابن الطثرية في رواية ثانية). في غربته وشوقه إلى نجد:
ألا يا صَبا نجد متى هِجتَ من نجد
فقد زادَنِي مسراكَ وجداً على وجدِ
أَإِنْ هتفت ورقاءُ في رونقِ الضحى
على فنن غَضِّ النباتِ من الرَّندِ
بكيتَ كما يبكي الحزينُ صبابة
وذبتَ من الشوق المبرح والصَّدِّ
بكيتَ كما يبكي الوليدُ، ولم تكن
جَزوعاً، وأبديتَ الذي لم تكن تبدي
وقد زعموا أن المُحبَّ إذا دنا
يملُّ، وأنَّ النأيَ يشفي من الوجدِ
بكلٍّ تداوينا فلم يشفَ ما بنا
على أن قُربَ الدارِ خيرٌ من البُعدِ.
ومثلهما قال متشوقاً الشاعر مروان الأصغر بن أبي الجنوب حيث يقول:
سقى الله نجداً، والسلامُ على نجدِ
ويا حبذا نجداً على النأي والبُعدِ
نظرتُ إلى نجدٍ وبغدادُ دونَها
لعليِّ أرى نجداً، وهيهاتَ من نجد
ونجدٌ بها قومٌ هواهم زيارتي
ولا شيء أحلى من زيارتهم عندي
ولا ننسى أبيات الصِّمة القشيري حسب بعض الروايات- الذي كان عاشقاً لنفحات نجد، وريح عراره:
أقولُ لصاحِبي والعيسُ تخدي
بنا بين المُنيفةِ فالضِّمارِ
تَمتَّعْ من شميمِ عَرار نجدٍ
فما بعدَ العشيةِ من عرارِ
ألا حبذا نفحات نجدٍ
ورَيَّا روضهِ بعد القِطارٍ
وأهلُكَ إذ يحلُّ الحَيُّ نجداً
وأنتَ على زمانكَ غيرُ زاري
شهورٌ ينقضينَ وما شعرنا
بأنصافٍ لهنَّ ولا سِرار
وهناك من غير أبناء نجد من تغنى بها وإن لم يزرها كما أشرت مسبقاً ولا أستطيع لها ذكراً في هذا الحيز الضيق، وقد امتدت مساحة العشق والحب لنجد حتى للمطربين من غير أهلها فها هي المغنية المشهورة (فيروز) غنت القصيدة الغزلية الوجدانية للصمة القشيري في محبوبته (ريا) والتي عدها الباحثون من الأوائل والمتأخرين من أعذب وأجمل أبيات الغزل وقد جمع فيها ذكر الأحبة جميعاً سواء المكان أم الإنسان:
حننت إلى رَيَّا ونفسك باعدت
مزارك من رَيَّا وشعباكما معا
بكت عيني اليسرا فلما زجرته
عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى
وقل لنجد عندنا أن يودعا
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى
وما أحسن المصطاف والمتربعا
وليست عشيات الحمى برواجع
إليك ولكن خل عينيك تدمعا
وكما ألهمت نجد الكثير من شعراء العربية فقد ألهمت أيضاً شعراء النبط ولعلي أستشهد بأبيات للشاعر محمد الأحمد السديري رحمه الله حيث قال:
أنا من نجد يكفيني هواها
ويبري لوعتي شربي لماها
وقال في موضع آخر:
إن كان بي عذروب حبي لأهل نجد
أحبها وأحب شمة هواها
أحبها يوم أنها ديرة المجد
دارن تمكن بالضماير غلاها
ومما قاله أيضاً:
في وسط نجد أتبع هوى كل نسناس
واطرب لشوف طيورها وتغريده
أعشق ليالي نجد لوانهـا ادماس
وأيامها عندي جنانن سعيدة
أحب نجد وكل حبي على ساس
حب بقلبي له قصور مشيده
عندي وعرها مـع سهلها
غابات وردن في زهور نضيده
وخاتمة المطاف مع أبيات الأمير الشاعر خالد الفيصل وهو يتغزل بنجد قائلاً:
حبيبتي نجـد عيني فيك معذوره
معشوقة القلب فيها للنظر سحرا
فضّة شعاع القمر في نجد مسحوره
من شاف لمعة قمر في خدّةٍ سمرا