سام الغُباري
قالوا: إنه فتى لا يشيخ! وقالوا: لن يصل الشيب رأسه! ولا يصدق القبيلي حين يدعي الحكمة أو يضرب الغيب! فكل مستمسك قبضوه عليّ أنهم وجدوني مبتسمًا.. دائم الابتسام! وحكموا أن هذا الفتى الممسوس بالسعادة غير المبررة صاحب قلب بارد، لن يعتريه همٌّ، أو يكويه غمٌّ!
جارنا العجوز كان شرسًا في السبعين، وابنه عاق وفاشل. ذات يوم قضم الرجل أذن ابنه في اشتباك عنيف على باب منزلهما. ضربات الجسدين معًا على الجدار والنوافذ، والصيحات المكتومة، وأذرع متشنجة تحيط ببعضها. وكنت هناك مصادفة شاهدًا على ملامح رعب الولد المسكين. جلستُ على مصطبة دارنا أقضم عود ذرة مبتسمًا كمن يتابع فيلمًا لحبيبَيْن التحما في لحظة حب ساخنة!
في نهاية المشهد ظهر وجه الأب مكشرًا عن أسنان تقطر دمًا، وفمه يبصق قطعة لحم صغيرة، وابنه قابض بكفه على أذنه يصيح ملتاعًا، ينسحب على ركبتيه مهزومًا خائفًا، ويولي هاربًا، تلاحقه شتائم أبيه «مصاص الدماء». يومها شرحتُ كل شيء لأمي، وكنتُ أضحك، وهي واقفة تنشر حبل الغسيل على سطح منزلنا الترابي، أؤدي بإتقان دور الأب والابن في معركتهما الصغيرة.. وأضحك بإفراط، سعيدًا بكل تلك المشاهد التي تؤذي مشاعر أي طفل، ولم أكن كأي طفل!
يوم ماتت حماتي وصلتُ منزلهم متعجلاً، وجعلت زوجتي تولول وتبكي على أمها الطيبة الحنون، وألفاني شقيقها لدى الباب متسائلاً: لِمَ تبتسم؟ شعرتُ بأنه قبض عليّ متلبسًا!
يوم ماتت أمي كُلفت بمهمة شراء حاجيات غداء العزاء. وفي عتبة السوق المركزي التقيت مصادفة مدير شرطة المرور، فأقبل يصافحني معزيًا، وقد سمع بوفاة أمي. استقبلته بوجه باش، وابتسامة واسعة. وأظنه اندهش؛ لمحت ذلك في عينيه، ولم أكن مضطرًّا لإعلان حزني. ولما وصلتْ ميتة من صنعاء احتضنتُها، وتفجرت دموعي. بكيتُ بهستيرية أزعجت والدي؛ فنهرني، ولم أحفل به. لا أتذكر ما قاله لي، فقط كنت أبكي. تدفق حزني الخفي من أعماقي، من كل خلية، وانبجس من عينَيْ شلالاً هادرًا.
حين دفنت أمي كان جفني متورمًا، واحمرار صاخب يكسو ملامحي، أستقبلُ المعزين على قارعة القبر، وقد فقدتُ الابتسامة.
هذا المساء.. كنتُ قد هجرت الحلاقة منذ أيام حين رأيتُ وجهي في المرآة. كان الشيب يغزوني كما فعل الحوثي بصنعاء ليلة الحادي والعشرين من سبتمبر المشؤوم؛ سقطت الوزارات، وخان الجيش. أنا أيضًا تعرضتُ للخيانة ذاتها، حين أعلنت الخلايا الصبغية في شعري التحوُّل إلى اللون الأبيض، وقد فقدت عضلات وجهي ذاكرتها على الابتسام.
..
تمنياتي لكم بعام سعيد?