من أجمل الكتب التي خطها الشيخ علي الطنطاوي كتابه الجميل (من حديث النفس) الصادر عن دار المنارة. تحدث فيه عن نفسه، وذكريات طفولته، وشبابه.. وبداية معرفته بالدنيا والعلم، والتعامل مع الناس.
يقول الطنطاوي في كتابه: حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفس، وحين أصف شعورَ واحدٍ وعواطفه أصف شعور الناس كلهم وعواطفهم، كصاحب التشريح، لا يشق الصدور جميعًا ليعرف مكان القلب وصفته.
تنبتُ الأفكار في نفسي، وتزهر، وتثمر، ثم تذوي وتجف؛ فآخذ الهشيم، فأضعه في مقالتي، ويتفجر الينبوع في نفسي، ويتدفق، ويسيل، ثم ينضب وينقطع؛ فآخذ الوحل، فأضعه في مقالتي.. وينبثق الفجر في نفسي، ويقوى، ويشتد، ويكون الضحى والزوال، ثم يعود الليل؛ فآخذ قبضة من ظلام الليل؛ لأكتب منها مقالة عنوانها: ضياء الفجر.
ذهبتُ أعرض صور حياتي وهي تمرُّ بي متتالية متعاقبة كمناظر السينما ملتفة بضباب الماضي؛ فأري مآسيها المغسولة بالدموع، وفواجعها الدامية.
جربت الصناعات والفنون، وطفت في البلدان، فما أخذت من ذلك كله إلا أني تركت في كل بلد قبرًا لأمل من آمالي.
ما آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الوحدة.. كنتُ أشعر كلما انفردت بفراغ هائل في نفسي، وأحس بأنها غريبة عني، ثقيلة عليّ، لا أطيق الانفراد بها، فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحارى قاحلة، وبيداء، ما لها آخر، بل كنت أرى العالم في كثير من الأحيان وحشًا فاغرًا فاه؛ فأحاول الفرار.
انغمستُ في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة، وكتبتُ، وخطبتُ؛ فكنت أحس وأنا على المنبر بأني لستُ منفردًا، وإنما أنا مندمح في هذا الحشد الذي يهتف.
كنتُ أرجو أن أكون خطيبًا يهز المنابر، وكاتبًا تمشي بآثاره البُرد، وكنت أحسب ذلك غاية المنى، وأقصى المطالب، فلما نلته زهدت فيه، وذهبت مني حلاوته، ولم أعد أجد فيه ما يشتهي ويُتمنى.
تتوارد عليك كتب الإعجاب، وتُقام لك حفلات التكريم..
لقد رأيت ذلك كله، فهل تحبون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه.
رأيت سرابًا.. سرابًا خادعًا، قبض الريح.