في الذكرى السادسة والعشرين لتوقيع اتفاق أوسلو طالعنا كثيرًا من المقالات والتصريحات لكتّاب ومسؤولين من درجات مختلفة بشأن التبرؤ من اتفاق أوسلو وإلغائه. نجد في بعضها بعضًا من الموضوعية.. وبعضها فيه نفاق سياسي لا يُطاق، ولا يُحتمل.. بل يكشف عن جهل كبير بحقيقة ما حصل، وكيف حصل الاتفاق.. وما ترتب عليه من التزامات متبادلة، وما أُنتج من آثار على الأرض، وما أحدثه من تغييرات سياسية، وما أعقبه من أحداث لدى الجانبَيْن.. كان أبرزها التخلص من رابين على الجانب الآخر بهدف وقف أوسلو عن التحرك والتطور إلى ما بعد اتفاق الحكم الذاتي.. والعمل على التوصل إلى تسوية نهائية، تُنهي الاحتلال للأراضي الفلسطينية المحتلة، وتقرر مصير الحدود واللاجئين والقدس والاستيطان.. إلخ. وتبع مقتل رابين وصول اليمين الصهيوني للحكم في (المستعمرة الإسرائيلية) الذي انقلب فعليًّا على أوسلو، وحوّله إلى جثة سياسية، وتناغمت معه القوى الفلسطينية المعارضة لأوسلو، وخصوصًا حركتَي (حماس والجهاد) اللتين كانتا تهدفان أيضًا إلى إلغائه، وحتى الآن تسعيان لإلغائه كما تعلنان..!
أوسلو فعليًّا قد تم قبره من قِبل الطرفَين دون إعلان.. وبات جثة سياسية، وتاريخًا أو جزءًا من التاريخ السياسي والدبلوماسي للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وكل طرف يتمسك منه بما يهمه من الاتفاق.
الإفرازات والنتائج التي أنجبها وأنتجها اتفاق أوسلو ليست كلها شرًّا، بل فيها جملة من الإنجازات، قد تحققت، وأحدثت، وتجسدت، ولا يمكن أن يكون هناك عاقل يسعى إلى التخلي عنها فلسطينيًّا؛ لأنها ليست مِنّة من أحد، وإنما دفع ثمنها نضال طويل، وتضحيات كبيرة مسبقًا، وقد تم انتزاعها وفرضها بشكل أو بآخر تحت مظلة اتفاق أوسلو الذي لم يُنهِ الصراع، بل مثَّل مرحلة من مراحل الصراع، وهو اتفاق مرحلي مؤقت، وسوف يتواصل الصراع بعده بأشكال شتى إذا لم يتبعه مفاوضات عملية وجادة، وذات مرجعية قانونية ودولية؛ حتى يحقق الشعب الفلسطيني كامل أهدافه في العودة والحرية، وبناء الدولة المستقلة، وعاصمتها القدس.
علينا أن ندرك أن لحظة التوقيع على أوسلو في واشنطن يوم 13 سبتمبر 1993م مثَّلت لحظة انكسار المشروع الصهيوني على طريق هزيمته، وليس ذروة انتصاره كما يظن البعض. ذلك ما يفسِّر لنا الانقلاب الذي جرى على الاتفاق، وخصوصًا من قِبل مُلاك المشروع الصهيوني من الأمريكان وأدواتهم في ذلك من اليمين الفلسطيني أولاً، واليمين الإسرائيلي ثانيًا.. ؛ إذ أعطى الأول بمواقفه وأفعاله المبرر للثاني للتخلص من التزامات أوسلو من جهة، والإجهاز على قوى السلام في داخل الكيان الصهيوني من جهة أخرى..!
لست ممن استفادوا من أوسلو، ولا من غيره.. لكن هذا لا يمنع من القراءة السياسية التاريخية الموضوعية للحدث.. فإذا كان له بعض الإيجابيات التي من الخطأ الفادح إنكارها.. أو تركها تذروها العواصف والرياح.. كي يلتقطها (المتبعرون) والمتربصون فيما بعد، ويتماشوا مع خطط التصفية للقضية الفلسطينية، سواء بموجب (صفقة القرن) أو غيرها من الصفقات والتسويات والتفاهمات..!
إن لاتفاق أوسلو الكثير من السلبيات، وقد سبق طرحها ومناقشتها في مقالات عديدة سابقًا، كما عرض لها الآخرون من مستويات بحثية وقيادية مختلفة منذ التوقيع على الاتفاق في 13 سبتمبر 1993م حتى الآن.. لا أحد ينكرها.
لكن ما هو المطلوب اليوم؟!
المطلوب هو وضع خطة استراتيجية فلسطينية وعربية بهدف المراجعة الموضوعية للتجربة بأكملها.. وقراءة المستجدات والمتغيرات بدقة متناهية للتعامل معها، والبناء والتثمير على الإيجابيات المتحققة والقائمة، وهي مهمة..
ومعالجة الأخطاء والسلبيات العديدة التي كشفتها الممارسة؛ لاستخلاص الاستراتيجية العربية والفلسطينية القادرة على المواجهة في المرحلة الحالية، ومواصلة النضال بأشكاله المختلفة وفق استحقاقات المرحلة في ظل جملة المتغيرات الإقليمية والدولية التي باتت معالمها واضحة، وتختلف بشكل كبير عن ملامح وظروف مرحلة توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993م؛ إذ كان العالم يعيش حالة التحول إلى الأحادية القطبية في ظل هيمنة أمريكية كاملة، في حين اليوم كل المؤشرات تؤكد نهايتها، وعودة التعددية القطبية للنظام الدولي من جديد، التي تُفقد الولايات المتحدة الأمريكية ميزة التفرد في إقرار السياسات الدولية، وفرض الحلول التي تناسبها كما تشاء لمختلف القضايا والمشاكل الدولية، ومن بينها القضية الفلسطينية والصراع العربي - الصهيوني.
إن هدف الحفاظ على الحقوق الوطنية الفلسطينية الثابتة والمشروعة، والعمل على إكمال انتزاعها، هو الهدف الذي يجب أن يسيطر على التفكير السياسي الفلسطيني والعربي في هذه المرحلة، والمراكمة على ما تحقق من إنجازات مادية وسياسية على طريق إنهاء الاحتلال، والعودة، وإقامة الدولة المستقلة، وعاصمتها القدس.. وليس العمل على إلغاء اتفاق أوسلو الذي لم يكن يمثل أكثر من محطة مرحلية، تم تجاوزها فعليًّا من الطرفين دون إعلان؛ لأنه لا أحد من الطرفين يريد أن يتحمل مسؤولية إعلان تخليه عن الاتفاق؛ لما فيه من مسؤولية دولية.. وما يمثل من نكوص إلى الوراء.
** **
رئيس المجلس الإداري للاتحاد العام للحقوقيين الفلسطينيين - عضو المجلس الوطني الفلسطيني