د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وقد اتسم هذا السرد بأن ضيف أضاف إلى الاعتماد على فعل القص في سرد الأحداث، ومعلومات تاريخ الأدب، تنظيم هذه الأفعال لتشكل فيما بينها حبكة قصصية متكاملة، عمادها بعث التشويق في النفس، وتقوم على التسبيب كما هو معروف في الحدث القصصي التقليدي. فهذا التسبيب لمفردات الحدث يتضافر فيما بينه؛ لينشئ الحبكة الكلية التي بنى عليها كتابته في تاريخ الأدب.
ففي الحديث عن المدح مثلاً يقدم بمقدمة عن المديح في العصر الإسلامي وما قبله، يجعلها المعتمد في غايات المدح، ثم ينتقل إلى العصر العباسي فيذكر أن الشعراء يبدون ويعيدون فيها، فجسموها في الممدوحين تجسيماً، ثم يعلل هذا الفعل من الشعراء بأنهم إنما أرادوا بذلك ضرب المثل للمدوحين لكي يحتذوها؛ فهي بمنزلة التربية الخلقية القويمة الحافزة على الفضائل، وهذا هو التسبيب الحدثي (يمكن مقارنة هذه الرؤية بما ذكرته من قبل عن رأي الغذامي في شعر المدح).
ثم يبني على هذا الحدث والعلة اللاحقة به حدثاً آخر يبيّن تطور الفعل الأول، وهو أن الشعراء نتيجة مدائحهم قد أشعلوا جذوتها (ويبدو أنه يقصد المثل وليست القصائد)، ثم أضافوا إليها مثالية الحكم وما ينبغي أن يقوم عليه؛ وبهذا أصبحوا صوت الأمة.
فالحديث عن المدح ابتدأ أولاً بصورة المدح في العصر الإسلامي وما قبله، بوصفه المقدمة أو تهيئة الحدث، ثم ينمو الحدث بأن يجعل هذه المعاني غايات، وكأنها أهداف، يسعى الشعراء لتحقيقها، وهذا يقوي من تطور السرد ونموه. وفي الوقت الذي هي غايات للشعراء يسعون لتحقيقها هي في الوقت نفسه أيضاً غايات للممدوح ينبغي أن يسير وفقها بوصفها المثل التي ينبغي أن يحتذوها.
هذا التنامي للسرد يجعل المدح والقول فيه ليس غرضاً يؤرخ له بقدر ما هو حبكة حدثية تتنامى أجزاؤها وفق مبدأ السببية حتى نصل إلى النهاية التي تعني فائدة هذه المدحة وما تؤول إليه حين تصبح صوت الأمة المعبِّر عن مطالبها، وليست قصيدة يقولها الشاعر رغبة في الأعطية.
وهذه الصورة التي يقدمها للمدح، ولموقف الشاعر من الممدوح، ومما يقول، ومن (الأمة) أيضاً - كما يقول - صورة افتراضية صنعها ضيف، لا علاقة لها بالتكسب في الشعر، ولا علاقة لها بالقول إن الشعراء كانوا إعلاميين في البلاطات، جعل فيها الشعراء مفكرين وأصحاب قضية، ومناضلين.
وإذا كان هذا الوصف يصدق على شاعر أو شاعرين في العصر القديم فلا أظنه يصدق بحال على بشار بن برد أو أبي نواس أو مروان بن أبي حفصة أو البحتري، وغيرهم كثير.
بيد أن وظيفة السبب أو التسبيب - إن صح التعبير - لا تقتصر على تكوين الحدث القصصي، أو هي في الأصل ليست لتكوين الحدث المركزي، وإنما هي وسيلة لفهم الظاهرة الأدبية بوصفه نوعاً من التحليل لها ببيان أسبابها، سواء الاجتماعية أو السياسية أو الفنية، فهو نوع من تفسيرها كما في حديثه عن المديح السابق، وكحديثه عن سبب إبقاء الشعراء العباسيين المقدمة الطللية في قصائدهم؛ إذ يرجع ذلك إلى اعتبارها رمزاً إما إلى حبهم الداثر، وإما إلى رحلتهم في الحياة، كما يعيد ظهور الحكمة في الشعر العباسي إلى رافدين: أحدهما قديم وهو السير على طريقة الأقدمين في الحكمة، ورافد الحكمة الفارسية والهندية واليونانية المترجم.
وهذا يعني أنه دمج الحديث عن التحليل في البناء السردي، فقام السبب بالوظيفيتين اللتين مرَّ الحديث عنهما. ولا شك أن هذا السبب هو سبب فني في المقام الأول بدليل اختلافه لدى الدارسين المختلفين كما في الإشارة الموجزة للفرق بين رأي ضيف والغذامي في المديح.
وإذا كان التحليل جزءاً من تاريخ الأدب (أو من التاريخ بوجه عام كما يرى ابن خلدون. سبق أن بسطت القول فيه في موضع آخر)، فإن دمج الحديثين معاً يقودنا إلى مشكلة عويصة، مفادها أن البنية التحليلية تقوم على الحبكة والبنية السردية، وهي ليست مشكلة في بادئ الأمر لولا أن «السبب» هنا جاء مسانداً لفعل القص أولاً والتحليل ثانياً؛ وهو ما يعني أن التحليل في هذا التاريخ جاء درجة ثانية، أو بصيغة أخرى أن السرد القصصي قد استغرق التحليل، وجعله إحدى أدواته، فهو رديف مكمل وليس أساساً في الخطاب هنا، وهو ما يدل على ضعف التحليل ليس بناء على أن الأحكام هزيلة وغير دقيقة، ولكن بناء على أنه لا يأخذ حيزاً ولا قيمة كبيرة في إنتاج الخطاب؛ فالسبب جزئي، ولا يأخذ حيزاً كبيرا ًمن القول، وغالباً ما يكون مستنبطاً ساعة الكتابة لتسويغ الظاهرة الأدبية، وإعطائها قدراً من المقبولية، وليس للبحث عن السبب الحقيقي أو الكشف عنه؛ لذا لا نعدم أن نجد تناقضاً في الأحكام التي يطلقها أو في العلل التي يحتج بها بين موضوع وآخر كحديثه مثلاً عن العصبية القبلية، فهو مرة يدعي خفوتها في العصر العباسي وانتماء بشار بن برد إلى الشعوبية، ومرة أخرى يتحدث عن عصبية بشار لمواليه القيسيين وافتخاره بهم.
وإذا كان قد أثر عن بشار هذه الأشعار فكان ينبغي أن يربط كل ظاهرة بسياقها، ويمدها بمزيد من التفصيل حتى يتجنب ما يبدو من اضطراب فيها من خلال اختزال القضايا النقدية والأدبية، ويستنبط منها قضية أكثر عمقاً، تتصل بميولات هؤلاء الشعراء الموالي (بشار بن برد، أبي نواس، وأبي العتاهية) عوضاً عن تكرار ما توصل إليه المستشرقون في دراساتهم في القرن التاسع عشر.