محمد عبد الرزاق القشعمي
أُقيم معرض محلي للكتاب بمركز الخدمة الاجتماعية بالقطيف منتصف شهر صفر 1416هـ، وكنت مع الأستاذ عبدالله حسين آل عبد المحسن نمثل مكتبة الملك فهد الوطنية في المعرض بمطبوعات المكتبة، ونختار بعض الشخصيات الثقافية؛ لنسجل معهم (التاريخ الشفهي للمملكة). فذُكر لنا الشاعر والغواص أحمد بن سلمان الصايغ (الكوفي)، فدلنا عليه الأستاذ سعود الفرج، فوجدناه وقد تجاوز التسعين من عمره، ويكاد لا يرى، وهو يعيش آخر أيامه عند إحدى بناته.. وهو يكاد لا يمشي على قدميه؛ إذ لا بد من مساعدة أحدهم. بدأ يتذكر ويساعده الحضور في ما نسيه من أحداث وقعت. قال إنه بدأ حياته التعليمية كغيره من الأطفال بحفظ بعض من قصار السور وبدايات الكتابة، وعندما شبّ درس على يد الشيخ ميرزا حسين البريكي بالقطيف، وبدأ بدراسة علوم اللغة العربية، مثل: الأجرومية، وقطر الندى، وشرح الألفية، كما درس على يد الشيخ محمد حسين آل عبد الجبار، ولكنه ما زال متعلقاً بمعلمه الأول الشيخ ميرزا البريكي؛ فقد تأثر به، ونمت موهبته الشعرية وتفتحت؛ إذ كان البريكي يقتني مكتبة غنية بالكتب الأدبية؛ فبدأ ينهل من معينها في شتى صنوف الفكر والثقافة العامة، ولاسيما التراث الشعري، قديمه وحديثه.
بدأ منذ شبابه المبكر العمل بحاراً لمدة اثنتين وعشرين سنة، وقد أوشك على الغرق فيما سمي بـ(سنة الطبعة) عام 1344هـ، وقد وصف معاناته لأيام وهو يصارع الأمواج «يكاد يغرق لولا تشبثه بلوح من الخشب المنسل من أحد القوارب المتحطمة، وبعد أيام عدة أنقذته إحدى السفن العابرة».
وقال إنه قاسى من شظف العيش ومرارته بسبب ركوب أهوال البحر، وظلم وتسلط النواخذة؛ مما حمله مع رفاقه على التقدم بشكوى مكتوبة إلى الملك عبد العزيز عام 1358هـ، يقولون فيها: «.. يا طويل العمر، إحنا خدامك ورعاياك، عمال الغوص في هذه السنين الطويلة، وإحنا يكدونا النواخذة، ويأكلوا أتعابنا بدعوة الدفاتر العتيقة حتى صرنا مثل العبيد المماليك.. فنرجوك يا جلالة الملك أن تمنوا علينا بالأمر الذي فيه راحتنا، ونحن لا نملك من حطام الدنيا سوى أجسامنا التي منّ الله علينا بها؛ لنتكسب بواسطتها على عائلاتنا، فإذا ذهبت مكاسبنا سدى هلكنا نحن وعائلاتنا من الجوع..».
o قال عنه الشاعر عدنان العوامي مفتتحاً الملف المخصص عنه في مجلة الواحة عدد 41 عام 2006م: «.. عارفوا الرجل يعلمون ما قاساه من الشظف، ومرارة العيش، ولاسيما في بواكير صباه، وأقله ركوب أهوال البحر عاملاً في سفن الغوص. ويكفي لمن لا يعرف الغوص أن يقرأ الشكوى التي رفعها الرجل ورفاقه البحارة لجلالة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - متظلمين من ظلم الربابنة (النواخذة)، وعسف تجار اللؤلؤ (الطواويش)، وحيف (مجلس الغوص)، وهو الخصم والحكم».
وقال عن معاناته: «.. يوم أنشبته العاصفة المعروفة لدى أهل الخليج بـ (الطبعة) فوق صارية سفينته المحطمة أياماً بقي خلالها يصارع الموج، وينازع أسماك القرش، حتى تسلخ جلد فخذيه، إلى أن تداركه لطف الله، فانتشلته سفينة عابرة. هذه الحياة المُرة كان ممكناً أن تُخرج رجلاً متمرداً ناقماً على الحياة، ماقتاً للناس، حاقداً على المجتمع، لكن على العكس من ذلك جاء الكوفي البسيط، الكوفي القانع بما قسم الله، الكوفي المحب للناس، الكوفي الفكه، اللطيف المعشر، العفيف الذيل واليد واللسان.. شخصياً عايشت الرجل معايشة الصديق المقرب، طيلة الربع الأخير من سِني عمره، وقد ذرَّف على الخمسة والتسعين عاماً، وعلى طول هذه المدة لم أسمع منه كلمة تذمر، أو تبرم، ولا غمزة لأحد بنقد أو غيره، ولو من طرف بعيد..». واختتم كلمته بقوله: «.. الواحة حين تقدم على توثيق سيرة الكوفي في هذا الملف فإنما تريد لفت النظر إلى أن البساطة والتواضع وحب الناس والعفوية هي أيضًا من مكامن الجذب والشهرة والاهتمام بحاملها، وتقديره. ولا جرم أن تكون من سمات العظمة والكمال في الإنسان».
o وقال محمد سعيد الشيخ ميرزا حسين البريكي في حفل تأبينه بعد أن ذكر الكثير من صفاته وثقافته وهدوء أعصابه واحترامه للآخر: «.. تزوج الشاعر الكوفي سيدة كريمة الخلق والدين من عائلة العمران، وعاش معها حتى وفاتها قبله بخمسة عشر عاماً تقريباً. وقد يصعب على المرء الوقوف على أمثلة كثيرة لعلاقة عائلية، ينعدم فيها أي مظهر من مظاهر القلق، كتلك التي كانت تسوء بين الشاعر وزوجته وأهله. لم يعش للشاعر أبناء ذكور، وقد جاء عقبه كله من ابنتَيْه اللتين خلفتا له اثني عشر سبطاً.. كان المرحوم على علم وافر بأمور الشريعة والدين، كما كان على قدر كبير من الثقافة الأدبية. كان علمه بالشـريعة وفهمه لها يتسمان بكثير من المرونة ومعرفة الآراء المختلفة وتقبُّل الهامش الذي يتطلب مرونة التطبيق.. كان الكوفي مُحصّناً ضد الاستفزاز. كان هدوء أعصابه مدعاةً للعجب..».
o وقال عنه الشاعر سعود الفرج: «.. وله ذاكرة قوية على استذكار الأحداث، سرعان ما يصوغها شعراً، ينساب زلالاً رقراقاً بين قوافيه، علاوة على قدرته الفائقة على تطويع تلك الألفاظ بأسلوب لافت رشيق، فضلاً عن سرعة بديهته في اقتناص المعاني، فإن رأيته سارحاً، أو مطرق الرأس، فإن وراء ذلك سيلاً متفجراً من القوافي العذاب التي طالما أثارت إعجاب مرافقيه وجلاسه في منتداه الأدبي الذي ظل متدفقاً بموسيقاه الكلاسيكية الرصينة، التي افتقدناها بعد رحيله. كما أن شعره يتسم بالغزل العفيف، وإن لم يخلُ من المعالجات الاجتماعية، ونقد لبعض الظواهر الشاذة في المجتمع.. لقد رحل الكوفي جسماً، لكنه بقي خالداً فكراً. وهذه حال الموهوبين والمبدعين، تبقى ذكراهم حية وضاءة، تنير الدرب للآخرين.. تستلهم الأجيال منها العِبر، وتسير على خطاهم إيجاباً. فهل يجود لنا الزمان بكوفي آخر..».
o وقال الشاعر الدكتور محمد رضي الشماسي: «.. والإنسان الذي يحيا لكلمة الصدق، في ما يقول ويعمل، هو الإنسان الحري بالإجلال والإكبار. والإنسان الذي يقف عند قضايا وطنه موقف المواطن الصالح يتفاعل معها تفاعلاً إيجابياً. يضع الحلول، ويفكر في النتائج مستشرفاً للمستقبل. ذلك هو الإنسان الجدير باحترام الجميع.
والإنسان الذي يمارس أو حتى يحاول أن يمارس المُثل في مبادئه أو سلوكه، في أخذه وعطائه، ذلك هو الإنسان المثال، وشاعرنا المرحوم الحاج أحمد بن سلمان الكوفي عاش في شِعره لعقيدته ووطنه، ولكلمة الصدق، وللعيش الكفاف، ولحياة المثل؛ فهو - رحمه الله - من الأبدال الذين يندر وجودهم في مثل هذا الزمان؛ لذلك فرض نفسه على الجميع فاستحق التكريم في حياته، وها هو اليوم يستحقه بعد وفاته..».
وقال: «.. وعلى الرغم من ظاهر يوحي لجاهله بأنه أُميّ، أخذ مكانه المناسب بين أقرانه من الأدباء والشعراء، خلال تلمذة سمعية فقط بين أيدي جيله من العلماء والأدباء والشعراء. وبين أيدي أستاذنا الكبير العلامة الشيخ ميرزا البريكي.. الذي فتح له قلبه ومكتبته، فراح يفيد منها كلما وجد فرصة للقراءة..».
قال عنه الشيخ البريكي مرة بلهجته المملوحة: «(الكوفي يختم العلم بالسكتة)، أي إنه يستوعب ما يسمع فيتعلم بصمت، ودون ضجيج، ومن غير أن يحس به أحد.
شاعر لم يقتن كتاباً، ولم يشترِ مجلة أو صحيفة، وهو على كفاف عيشه غني بروحه، ثري بإيمانه، ما رُئي يوماً مهتماً بأمور الدنيا، ولا مشغولاً بحطام الحياة، يكفيه من الطعام ما يقيم الأود، ومن اللباس ما يستر الجسد، ومن السكن ما يكن...».
o وقال عنه الشاعر والمحامي محمد سعيد الشيخ محمد علي الخنيزي: «.. وعندما قلّ وارد هذا العمل [الغوص]، وبدأ الناس يتركونه لوجود أعمال أخرى بديلة، أخذ الشاعر المرحوم يمتهن طبخ ثمر شجر الورد، وتصعيده؛ ليكون منه ماء الورد المعروف، وكذلك ماء البهار، وهو زهر الحمضيات، وطبخ قروف الفحال الذي يكون من ثمره حبوب لقاح النخيل عندما ينشق القُرْف عن هذه الحبيبات، فيكون طحيناً عندما يجف، والقرف بعد ذلك يطبخ طبخاً جيدًا فيكون من بخار الماء قطرات تسمى ماء القروف، وهو طيب النكهة، حسن الرائحة يُضاف إلى ماء الشرب أحياناً، فيكون الماء لطيفاً آنذاك، ومع حاجته وما يعانيه من الضائقة المالية والمعيشة الضنكة فإن له موهبة شعرية ممتازة. ولما نعرف فإن المواهب الشعرية هي من ألطاف الله تعالى وعطائه، وهي قريحة فياضة، متى ما رعاها الإنسان بالمواصلة والاهتمام أنتجت له نتاجاً خصباً، وهذا ما تحصل لشاعرنا المرحوم..».
.....................يتبع