د. عبدالحق عزوزي
لقد أمكن حتى الآن، التحكم في المخاطر النووية، المعروفة منها والجديدة؛ ففي العصر النووي الأول، سادت رؤيتان رئيستان متناقضتان: الأولى مثلث بـ»المفارقة الكبرى» التي أطلقها ونستون تشرشل وهي القائلة: إن «الأمن سيكون الطفل القوي للإرهاب، والبقاء هو الأخ التوأم للإبادة»، أما الثانية فهي «الحقيقة المتناقضة» التي عرضها هنري كيسنجر، عام 1960، بقوله: إن «قدرًا من الأمن يكمن في الأرقام». وقد وقف هذان التناقضان التوأمان، وراء توجه القوى العظمى لبناء ترسانات هائلة، كما أن توافر مزيد من «الأمن» النووي، زاد هذين التناقضين حدة، بطرائق عدة؛ فطوال عقود، كانت هناك آلاف الأسلحة النووية جاهزة للإطلاق، لكن أيا منها لم يستخدم في ساحة حرب فعلية.
وإذا كان العامل الإنساني قد استثار «قانون مورفي»، فإنه أسهم أيضًا، في الحيلولة دون تفجر كثير من الأزمات الحادة بشكل «سحب نووية»؛ وإذا ما عاد الماضي؛ ليصبح فاتحة تمهد لأحداث لاحقة، فلنا أن نتوقع أزمات حادة كبرى، ترتبط بالإرهاب النووي، ولا سيما حال تخلف أداء البرامج التعاونية للحد من التهديدات. لذا نفهم صيحات المنظومة الدولية فيما يتعلق بالسلاح النووي الإيراني...
فالتاريخ النووي، حافل بالمفارقات، والمستقبل يخبئ المزيد منها سواء ما هو مهلك منها أو ما هو غير ذلك. ومهما يكن من أمر، فإن الممر الأمن خلال العصر النووي الأول، قد تطلب الثبات واستيعاب الدروس من الأخطاء المرتكبة، والحكمة قبل كل شيء. ولا ريب في أن إيجاد ممر آمن، خلال العصر النووي الثاني، سيقتضي الاعتماد بشكل أكبر، على كل هذه العوامل، وإلا فإن البشرية ستعاني ويلات أناس ضالين ومضلين.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن المحددات الحالية لنوعية الحروب بدأت تتغير جذريًا عمّا ألفناه وعما نظر له كبار الإستراتيجيين التقليديين أو الكلاسيكيين للحروب كالصيني القديم صن تزو أو الجنرال البروسي كارل فون كلاوزفيت الذي يشبه الحرب بمبارزة على أوسع نطاق ويقارنها بصراع بين اثنين من المتبارزين ليستنتج من خلال ذلك أن «الحرب هو عمل من أعمال العنف تستهدف إكراه الخصم على فرض إرادة معينة» فالعنف هو الوسيلة، أما الغاية فهي فرض الإرادة على الخصم، بمعنى أن الهدف من أي عمل عسكري هو هزيمة العدو أو نزع سلاحه. لذا نراه يسخر من النظرية القائلة بالحرب دون إهراق الدماء فيقول: «لا تحدثونا عن قادة ينتصرون دون سفك الدماء»... أما اليوم فمن شأن الهجمات الإلكترونية أن تتعدى ويلات الحرب الكلاسيكية ويمكنها أن تسبب في وقوع ضحايا وخسائر جسيمة جسدت في الجزء الرابع من سلسلة أفلام داي هارد Die Hard 4 أو كما عُرف في شمال أمريكا Live free or Die Hard حيث نرى الشرطي جون ماكلين (بروس ويليس) في حرب ضروس مع نوع جديد من الهجوم الإلكتروني الذي يبدأ بتعطيل إشارات المرور مما يسبب زحمة خانقة قبل مهاجمة شبكة الأنظمة التي تتحكم في البنى التحتية للولايات المتحدة الأمريكية، ليضع الهجوم البلاد ومن ثم العالم في حالة شلل تام...... هذا الفيلم المتميز يلخص مسألة حرب الإنترنت الذي يثير العديد من التساؤلات العلمية من قبيل مفهوم حرب الإنترنت وعسكرة الفضاء الإلكتروني إلى حد أن هناك من يطرح فرضية صياغة ميثاق لحرب الإنترنت شبيه بميثاق جنيف...
فلا جرم أن أمن البيانات الشخصية بل وأمن الإنترنت بصفة عامة أصبح اليوم من الموضوعات الحساسة والإستراتيجية التي تشغل بال العديد من الحكومات العالمية.. فليس غريبًا أن تقرأ مثلاً أن قراصنة تمكنوا من اختراق بعض الحسابات الخاصة على البريد الإلكتروني الخاص بكبار المسؤولين الأمريكيين أو أن تتعرض مؤسسات دولية وأجهزة أمن قومية لهجومات إلكترونية. وليس غريبًا أن نسمع أن الجيش الإسرائيلي يعمل سنويًا لتأهيل مئات الجنود والضباط للعمل في مجال الحرب الإلكترونية في إطار الدوائر الاستخبارية والتنصت أو أن نسمع ونقرأ عن بعض المراسلين والقادة الإسرائيليين أن الحرب الإلكترونية باتت اليوم حربًا تستعد لها تل أبيب جيدًا، خشية أن تدخل في أنظمتها الحساسة فيروسات تشل عملها في أحرج الأوقات، خاصة أن أعداءها نجحوا في السيطرة على عدة أنظمة في السنوات الأخيرة، وقفزوا إلى مراتب تقنية ذات صلة بحرب «السايبر»، التي يسميها «حرب الظلال» الجارية بين الجيوش في عمق قلب معلومات العدو، وتشبه الحديث عن «رقعة شطرنج» ضخمة عالمية تتحارب فيها أفضل العقول...