أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
جاز الشيء بمعنى سار فيه؛ وأجازه خلفه وراءه وقطعه بمعنى تجاوزه.. انظر كتاب (مقاييس اللغة) ص32.
قال أبو عبدالرحمن: وجَوْزُ الشيء وسطه.. انظر كتاب (مقاييس اللغة ص32)؛ وذلك من جاز الشيء؛ لأنه في أثنائه؛ وفسَّر (الراغب) جاوز الشيء بمعنى تجاوزه؛ أي بلغ جوزَه.. انظر كتاب (المفردات) ص112؛ والجوزُ خلف وسطه؛ وفسَّر المجاز الاصطلاحي بالكلام المتجاوز موضعه الذي وُضع له؛ وفَسَّر الحقيقة بما لم يتجاوز ذلك.. انظر كتاب (المفردات) ص 112، وتعقب (السمين) (الراغب) إذ فسَّر جاوزه بمعنى تعداه.. انظر كتاب (عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ) 1/ 314، ولكنه تابعه في دعوى أن الاشتقاق من الوسط.. انظر كتاب (عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ) 1/ 314 - 414؛ وذكر (الزمخشري) مَجاز القوم ومجازتهم مثل مجازة النهر وهي الجسر.. انظر كتاب (أساس البلاغة) ص401؛ وذكر اللغويون جازَ الطريق وجاز به وجاوزه بمعنى سار فيه وسلكه.
قال أبو عبدالرحمن: الصواب أن جازَ الطريق تجاوزه بمعنى قطعه؛ وجاز به بمعنى سار فيه؛ وجاوزه تعداه غير مارٍّ به؛ ثم صارت بمعنى جازه تجوزًا؛ وذكروا أجاز بمعنى تركه خلفه وقطعه.. وذكروا الجواز بمعنى صك المسافر؛ وجوائز الأشعار بمعنى الأمثال السيارة، وما جاز من بلد إلى بلد؛ وجوز الشيء؛ وأجازه بمعنى سوَّغه وأمضاه؛ ويقال تجوز في الأمر إذا احتمله وأغمض فيه، وعن (السيرافي): أن تجوزَ عن ذنبه بمعنى تجاوز عنه.. أي لم يؤاخذه به، والتجوز في الصلاة التخفيف، وتجوز في كلامه بمعنى تكلم بالمجاز، وسموا الخشبة المعترضة بين الحائطين جائزة، وذكروا الجوز بمعنى وسط الشيء ومنه حديث (علي) رضي الله عنه أنه قام من جوز الليل.. انظر كتاب (تاج العروس) 8/ 43 - 63؛ فكل ما مر حقائق صحيحة؛ ولكنها تجلب الصداع؛ وأعظم من ذلك ما ذكره (الزبيدي) عن المجاز الاصطلاحي؛ فنقل عن (المزهر) لـ(السيوطي) عن (الرازي فخر الدين) قوله: (جهات المجاز يحضُرنا منها اثنا عشر وجهاً:
أحدها: التجوُّز بلفظ السَّبب عن المُسبَّب، ثم الأسباب أربعة: القابل كقولهم: سالَ الوادي، والصُّوريُّ كقولهم لليد: إنها قدرة.. والفاعل كقولهم: نزلَ السحابُ أي المطر، والغائي كتسميتهم العنب الخمر.. الثاني بلفظ المُسبّب عن السبب، كتسميتهم المرض الشديد بالموت.. الثالث المشابهة كالأسد للشجاع.. والرابع المضادة، كالسيئة للجزاء.. الخامس والسادس بلفظ الكل للجزء كالعام للخاص، واسم الجزء للكل، كالأسود للزنجي.. والسابع اسم الفعل على القوة، كقولنا للخمرة في الدَّنِّ: إنها مُسكرة.. والثامن المشتق بعد زوال المصدر.. والتاسع المجاورة كالراوِية للقِرْبة.. والعاشر: المجاز العُرفي؛ وهو إطلاق الحقيقة على ما هُجر عرفاً، كالدابة للحمار.. والحادي عشر الزيادة والنقصان، كقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (سورة الشورى/ 11)، و{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (سورة يوسف/ 82].. والثاني عشر اسم المتعلِّق على المتعلَّق به، كالمخلوق بالخَلْق، انتهى.. وقال القاضي (تاج الدين السبكي) في كتابه (شرح المنهاج) بعد كلام طويل: والفَرْضُ أن الأصلَ الحقيقةُ، والمجازَ خلافُ الأصلِ، فإذا دار اللفظ بين احتمال المجاز واحتمال الحقيقة فاحتمال الحقيقة أرجح.. انتهى.. وقال الإمام وأتباعه: الفرق بين الحقيقة والمجاز إما أن يقع بالتنصيص، أو بالاستدلال؛ أما التنصيص فأن يقول الواضع: هذا حقيقة، وهذا مجاز، وتقول ذلك أئمة اللغة، وأما الاستدلال فالعلامات؛ فمن علامات الحقيقة تبادر الذهن إلى فهم المعنى والعراءُ عن القرينة، ومن علامات المجاز إطلاق اللفظ على ما يستحيل تعلقه به، واستعمال اللفظ في المعنى المنسِيِّ، كاستعمال لفظ الدابَّة في الحمار، فإنه موضوع في اللغة لكل ما يدبُّ على الأرض، انتهى.. وقال (ابن برهان): وقال الأستاذ (أبو إسحاق الإسفراييني): لا مجاز في لغة العرب، وحكى (التاج السبكي) عن خط الشيخ (تقي الدين بن الصلاح) أن (أبا القاسم بن كج) حكى عن (أبي علي الفارسي) إنكار المجاز؛ فقال (إمام الحرمين) في (التلخيص) و(الغزالي) في (المنخول): لا يَصِحُّ عن الأستاذ هذا القول، وأما عن (الفارسي) فإن الإمام (أبا الفتح بن جني) تلميذ (الفارسي)، وهو أعلم الناس بمذهبه، لم يحك عنه ذلك؛ بل حكى عنه ما يدل على إثباته.. ثم قال (ابن برهان) بعد كلام أورده: (ومُنكِرُ المجازات في اللغة جاحدٌ للضرورة، ومعطلٌ محاسنَ لغة العرب)، قال امرؤ القيس:
فقلتُ له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازاً وناء بكلكل
وليس لليل صلب ولا أرداف)).. انظر كتاب (تاج العروس) 1/ 85 - 95.
قال أبو عبدالرحمن: المحقَّق أن أصلَ الاستعمال في اللغة للسير في الشيء إلى مقدار وسطه؛ فمن سار في الشيء ولم يصل إلى الوسط لا يقال: إنه جازَ إلا تجوزاً.. إذا عُرف هذا فيسهل رد كل معنى لغوي إلى المعنى الأصلي؛ وليس غرضي تأصيل معاني هذه المادة، وإنما غرضي رد معنى المجاز الاصطلاحي إلى المعنى اللغوي، والوجه في ذلك أن المتكلم بالمجاز أخذَ من حقيقة اللغة معنى يعبرُ منه إلى معنى آخر لم يركبْ له اللفظ في أصل اللغة، فيكون التعبيرُ بمعنى غير حقيقي للفظ لغة عن معنى حقيقي في الواقع.. يكون هذا التعبير مجازاً على التشبيه بالمجازة التي يعبر منها من مكان إلى مكان مثل مجازة النهر.
قال أبو عبدالرحمن: من جعلَ المجاز الاصطلاحي بمعنى المجازة اللغويَّة علَّلَ بأن الكلمة المستعملة في غير ما وُضعت له طريق إلى تصور المعنى المراد منها.. انظر كتاب (المطول) ص 253، وكتاب (الإيضاح) (ص 693).. ومن جعل المجاز الاصطلاحي من قطع الشيء وتركه وراءه علَّلَ بأن الكلمة ترك أصلها اللغوي واستقبل غيره، وأثبت جمهور العلماء المجاز في اللغة والقرآن، ورأوا أن إسقاطَه إسقاطٌ لشطر الحسن انظر كتاب (البرهان) 2/ 552، وأنه أبلغُ من الحقيقة.. انظر كتاب (الإتقان) 2/ 99، وكتاب (معترك الأقران) 1/ 642، ووصف (ابن قدامة)، وغيره منكر المجاز بالمكابرة.. وانظر كتاب (روضة الناظر) 2/ 46، ووصف (الشوكاني) منكريه بأنهم قليلو اطلاع مفرطون في ما ينبغي الوقوف عليه من هذه اللغة الشريفة.. انظر كتاب (إرشاد الفحول) ص 22، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.