حسن اليمني
توطين العلم وتعريب العلوم لا تعني أن نخترع العجلة أو أن نبدأ من الصفر، لكنها الأرضية والقاعدة الحقيقية للنهوض، تستطيع أن تقرأ وتتحدث بلغة غيرك لكن هذه تبقى لغة وليست فكرا.
ستساعدك اللغة الأجنبية التي تعلمتها وأتقنتها من قراءة الفهرس ودفتر الإرشاد لأي منتج مستورد سواء كان آلة أو نظرية أو اسم زر تشغيل، وستتقن استخدام واستهلاك ذلك ثم ماذا بعد؟ لا شيء، الشيء العجيب أننا نصنع بعض الأدوية عندما عرفنا مكوناتها ونسب خلطها وحين نكتب مكوناتها فوق علبة الدواء نكتبه باسمه الأجنبي، سيفهم الطبيب والصيدلاني ذلك لكن طالب الثالث ثانوي لن يشغل فكره ولن يلتفت أبدا لذلك فكيف أتوقع منه أن يفكر في معادلة كيميائية تعطي نفس النتيجة أو أفضل؟ الأمر مستحيل بالطبع لكننا سنقول إنه حين يدرس الطب سيعرف فهذه مصطلحات أجنبية يدرسها الطلبة المهتمين في هذا الشأن، والواقع أني كوطن أسعى لإنتاج وصناعة ما هو أفضل منه ولدي عقول مهنية ومولعة بفوائد الأعشاب وتركيباتها ولو قُدِرَ لها معرفة تركيب الأدوية لتوسعت في تجاربها إلى أن يصلوا إلى ابتكار أفضل منها وأجود لكنهم لا يعرفون اللغة الأجنبية ولا يملكون مركز أبحاث، وهناك آخرون ذوو عقول مبدعة في ابتكار الطرق الميكانيكية والفزيائية لصناعة الأداة لكنهم لا يعرفون اللغة الأجنبية ولا يملكون اللغة التي تصف مشتقات النفط وتدل على أغراض استخدامها وإمكانات خواصها، الإشكالية أن هذا المواطن وذاك من النوع كثير الحركة ونافر من الرتابة فلا يطيق الجلوس لساعة من الزمن في محاضرة تستوجب عليه تعلم اللغة الأجنبية أولاً وهو بالكاد عرف الفعل والفاعل والمفعول به لتكوين جملة عربية صحيحة، نحن خسرنا هذه العقول وإمكانية الاستفادة منها.
وماذا عن الآلة وإمكانية صناعتها لتصنيع أجزاء آلة أخرى هل الأمر يحتاج إلى عباقرة وتخصص أم فقط هاوٍ وراغب؟ هذا الهاوي والراغب كيف له أن يعرف خصائص مشتقات النفط التي تحمل أسماء ومصطلحات أجنبية وهو بالكاد يعرف كتابة اسمه بلغته الوطنية مع أخطاء إملائية، للأسف خسرنا هؤلاء أيضا، إنهم لدينا ونراهم في ورش السيارات يفكون أجزاء الماكينة وينظفوها ويعيدوا تركيبها وهم قادرون على صناعة ما هو أفضل وأنسب منها، هم يرون ذلك لكن أغلبهم لم يكمل دراسته ولا يعرف ماذا تعني مصطلحات مكونات التركيب فهي بلغة أجنبية ورموز لا تظهر معانيها حتى في قاموس اللغات، وخسرنا هؤلاء أيضا.
إننا بعدم تعريب العلوم وتوطين العلم نوجه الأجيال نحو الأعمال الإدارية والنظرية وحتى حين نختار مجاميع لمهن الطب والمهن الفنية لتشغيل المصانع المستوردة فإننا نلزمهم بتعلم اللغة الأجنبية لمعرفة كيفية إدارة واستخدام المادة والآلة المستوردة دون أن يتجرأ حتى على التفكير ابتكار بديل أفضل وحتى إن فكر عشق ورغبة فضولية فلا يتعدى الأمر حلم يسخر منه سامعه، وهذا بمثابة تحنيط للهمم أو عدم تجاوز لمهام العمل، ونخسر بهذا فرص صناعة عباقرة سرعان ما يملون روتين الأداء ليتحولوا من تشخيص الأمراض إلى إدارة الأقسام والمشافي أو من هندسة الاليكترونات إلى شفط الأرجيلة في الاستراحة ومتابعة الفريق الكروي المفضل.
صحيح أن لدينا معاهد وكليات مهنية وفنية تشتمل كثيرا من التخصصات الكهربائية والميكانيكية وغيرها وغيرها لكنهم يمضون بنفس المسار أيضا، فالتعليم هو أيضا بنفس الطريقة لغرض الاستخدام والتشغيل بمعنى تخريج عامل مهني ولا أعرف إن كان يتاح التصنيع والابتكار في هذه المعاهد والكليات أم لا، أعترف أن معلوماتي قاصرة في منتجات هذه المعاهد والكليات لكني لم أرَ على أرض الواقع تصنيع وإنشاء الآلة وبالتالي أضعه في نفس المسار.
الغاية في الأخير أن تعلم اللغات الأجنبية تخصص مثله مثل الفقه والتجويد والرياضيات وأن التقدم والتطور هو في تعريب العلوم والمصطلحات لخلق البيئة العلمية الحقيقية التي تستوعب جميع مستويات العقول والاهتمام والهواية والموهبة، كما أننا لن نستطيع أن نكون بين الآخرين إلا بلغتنا التي تميزنا وتميز عقولنا في الفهم والإبداع والابتكار، وهذا هو مفهوم التبادل المعرفي الحقيقي بين الأمم، ولا أذكر أن دولة تقدمت بلغة أجنبية بما في ذلك الغرب الصناعي الذي ترجم العلوم من العربية إلى الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية ليصعد بلغته ويتقدم، بل إنهم يمتعضون من ذكر أي لغة خلاف لغتهم حتى في التسوق الانتهازي المربح، دعونا نقلدهم في هذه وتكفينا.