د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في المقال السابق تحدثنا عن المورسكيين، وهم مَن بقي من المسلمين بعد سقوط غرناطة، وأُجبروا على التنصر، وأوردنا طرفًا في المقال السابق عن حالتهم المزرية، وصدور مرسوم غرناطة الذي أصدره الملك الغرناطي فيليب عام 1565 ميلاديًّا، أي بعد السقوط بسبعين عامًا تقريبًا.
كان السيد/ نونيت مولاي أحد المسؤولين، وكان حليمًا بطبعه رغم كبر سنه، لكنه اكتسى بالغضب بعد صدور المرسوم، وأوضح رأيه فيه في رسالة أرسلها إلى يوثا رئيس المحكمة، وطرح ردًّا عقلانيًّا وواضحًا.
فالمرسوم كان ظاهره جعل المورسكيين نصارى صالحين، لكن باطنه اجتثاث جزء ممن بقي من شعب عاش على التراب الأندلسي ثمانمائة عام. وفيما مضى تم منع الموسيقى الأندلسية وآلاتها، ورقصة الزمرة، واللباس الأندلسي، والملحفة النسائية التي تغطي الرأس والوجه لمن رغب، والوثائق الأندلسية، والكتب العربية، وفرض عدم التحدث اللغة العربية، وترك الأبواب مفتوحة أيام الجمع، وهدم الحمامات العامة.. وغيرها.
كان ظاهر المرسوم أن يمتزج المورسكيون مع النصارى القدماء في العقيدة والثقافة، لكن لم يكن ذلك سوى مبررات للفعل الذي يهدف إلى غاية خفية. ومن الأدلة على ذلك أن أحد بنود مرسوم غرناطة الملكي حظر على المورسكيين الإبقاء على العبيد الزنوج لديهم، وأن يغادر العبيد المعتقون غرناطة، في الوقت ذاته يسمح للعبيد الزنوج لدى المسيحيين بالبقاء سواء كانوا عبيدًا أو معنفين؛ لأن حكام الأندلس والفاعلين فيها يرون أن العبيد الزنوج لدى المورسكيين قد تشربوا بالإسلام خفية، كما هي حال أسيادهم؛ لذلك فإن المرسوم ليس من منطلق إنساني أو تحريرًا للعبيد، ورفع هذا الواقع المؤلم لهذه الفئة الزنجية المظلومة والمنتجة. يقول نونيت مولاي: «هل يستحق هؤلاء السود هذه الحياة التعيسة؟ أليس من الواجب النظر إلى كل الناس على أساس أنهم متساوون، دعهم يجلبون أباريق الماء على ظهورهم، أو يحملون الأثقال، أو يعملون بالمحراث».
لقد طرح السيد/ نونيت مولاي ممثل المورسكيين، والمكافح عن قضاياهم، الأمر على السيد/ ديثا المدبر لاجتثاث ثقافة الشعب بأكمله. طرح عليه أن يتخيل لو أن النصارى قد أُمروا بأن يلبسوا مثل المورسكيين، أو أن يتحدثوا العربية بدل القشتالية، أو أن يُمنعوا من استخدام آلاتهم الموسيقية، ويُجبروا على استخدام آلات المورسكيين الموسيقية، أو يتراقصوا رقصة الزمرة على تلك الأنغام، أو أن تؤمر نساؤهم بتغطية وجوههن كما كان يفعل بعض المورسكيات. وقد أجاب هو عن تساؤلاته في رسالته إلى السيد/ ديثا: «لن يمتثلوا، وإنما سيموتون، ويعانون تحت الأعباء والعقوبات».
إن السيد/ نونيت مولاي يعلم سلفًا أن السيد/ ديثا لن يستجيب، لكن أراد أن يُظهر له الطريق الخاطئ الذي يسير فيه. كما أن نونيت مولاي قد طرح أمرًا يعرف أنه غير مستجاب، وطرح طرحًا آخر ماديًّا؛ لعله يحصل على شيء لهؤلاء المغلوب على أمرهم؛ فقد طلب من السيد/ ديثا أن يرفع الضريبة التي تسمى فرضة، التي كان المورسكيون يدفعونها مرغمين دون غيرهم؛ وذلك لتجهيز الدفاعات الساحلية لغرناطة، فكان جواب السيد/ ديثا بعد كل تلك التساؤلات مقتصرًا على السؤال المتعلق بالضريبة أو الفرضة، أي المال، فقال إن الملك أراد إيمانًا، ولم يرد مالاً، وإن الملك قد يشدد على أن إنقاذ نفس واحدة أهم من كل الدخل الذي يمكن أن يأتيه من الفرضة التي يدفعها المورسكيون المنصَّرون حديثًا.
إنه مبرر واحد من عدد من المبررات التي يسوقها السيد/ ديثا، والملك من خلفه، لظلم فئة من الشعب؛ لأنهم قد احتفظوا بثقافاتهم، مع أنهم قد غيّروا دينهم عنوة، سواء كانوا صادقين أو مستخدمين التقية وسيلة للحفاظ على الأرواح. وما كان ذلك مقتصرًا على الملك فيليب والسيد/ وديثا؛ فالبشرية - مع الأسف - عبر التاريخ مرت - وما زالت - تمرُّ بالكثير من الظلم، والجبروت، وانتزاع الثقافات من عقول وأفئدة الناس.. وحسبنا قول الشاعر:
ومكلف الأيام ضد طباعها
متطلب في الماء جذوة نار
وحتى نكون منصفين، فإن المسلمين عندما دخلوا إسبانيا حاملين معهم إيمانهم، وثقافاتهم المختلفة، لم يجبروا سكان الجزيرة الأيبيرية، بما فيها الأندلس، على تغيير دينهم أو ثقافاتهم، بل تركوا المسيحيين واليهود يمارسون دينهم، ويذهبون إلى كنائسهم ومعابدهم، ويتقاضون عند قضاتهم طبقًا لشريعتهم وأعرافهم، كما كان منهم الوزراء والسفراء وأطباء الملوك والتجار، وأيضًا عاش المسلمون المدجنون فترات سابقة تحت ظل حكم نصراني، لم يغيِّر ثقافاتهم؛ لهذا فإن الإنسان هو الداء وهو الدواء؛ فيمكن أن يكون خيرًا متسامحًا كريمًا، أو ظالمًا قاسيًا غشومًا، كما كان الملك فيليب.