هل تمضي الحياة كما كانت، هل تبقي الأشياء كما هي، ويأتي صباح جديد، وتغادر الناس إلى أعمالها. وكأن ما حدث لم يحدث. كيف هي الحياة التي تختطف أجمل ما في حياتنا وتركض بعيدًا عنا، ومن ثم تأخذنا إلى عالمها، نعيش أحداثها ويندمل جرح، لكنه لا يطيب.
تعيش لفترات تعتقد أن ما يحدث في العالم من حولك لا يمكن أن يصيبك، وكأن لديك حماية استثنائية خصها بك الخالق. تسمع عن أحداث وأخبار وأشخاص رحلوا وناس في خضم الركض غادروا. وتعود إلى منزلك ركضًا. تحتضن أمك لتشعر بالأمان وتتأكَّد أن ابتسامتها هي نفسها، تتغذي من حنانها وتسمع كلمات الدعاء والرضا لتمنحك طاقة وسعادة عميقة. وتتحسس يد والدك لتقبلها فترتوي بالخير ويمنحك التفاؤل والحيوية. كينونة جميلة في بيت تحفه المحبة إخوة وأخوات، وبرنامج يومي يبدأ بركض الحياة وينتهي بجمعة الأسرة في حضرة الوالدين وتكون الجلسة مفتوحة لحوارات ونقاش أفكار وكتب وأحداث وكأنها ندوة تلفزيونية، نستجمع فيها الفكر، ونتغذى منها بالعاطفة.
برنامج يومي لم يفرض، بل هو رغبة لكل فرد، يغيب المسافر منا أيامًا ولقاؤنا في الجلسة المسائية نسمع تفاصيل سفره وأحداثه ومن ثم يبدأ الحوارات. وحينما ينظر الوالد إلى ساعته فهي الإشارة إلى أن الليلة انتهت، ويتكرر اللقاء الليلة الثانية. وكل يتلهف ويستعد لها، هذا برواية، وذاك بتحليل لأحداث، وهذه بملخص لكتاب. مساحة صغيرة في المكان، عالم كبير من الحب.
سنوات تمضي ومياه كثيرة تمر وأحداث تتغير، ولكن برنامجنا هو الثابت مع كثير من الحب والألفة والتناغم. جمعنا نهران يغذيان محيطنا الواحد، يجمع بين العقل والعاطفة. فأمي تمثل العاطفة والحنان صوت القلب. ونصائحها التي لا تتوقف «يا أولادى بادلوا الشر بالخير، وتجاوزوا عن الإساءة، وأحبوا الناس، ولا تدققوا في التفاصيل فالتغافل نعمة». صوت عاطفة طوباوي يستند إلى حكمة وقناعات راسخة. وفي الجانب الآخر صوت العقل، الأب الذي يمثل الحكمة، «اعملوا من أجل المستقبل لا تستعجلوا النتائج، اجعلوا المبادئ تقودكم وليس المصالح. اجعلوا الله بين أعينكم ولا تخافوا شيئاً». صوت عقل عمقه الداخلي العاطفة الحقيقية. نظرية التوازن عرفناها في المنزل، بفطرة التربية وحقيقة الواقع.
لا يمهلك الزمن كثيرًا. سنة الحياة. يومًا ما طرق القدر الباب. أمك أغلى ما تملك يتسلل إليها المرض. يوم فاصل قبله مرحلة وعمر، وبعده حياة ثانية. لحظة كنت تخافها وتخشاها وتلغيها من تفكيرك لكنها الحكمة الإلهية وما علينا إلا الاستسلام والقبول. ويختبر القدر قوة إيمانك وتلجأ لله تطلبه الصبر والمعونة. وتقول (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا).
لكنها الأم التي لا يهزها المرض ولا تستسلم، بل بقيت كعادتها كيانًا ثابتًا، نبراسًا للأبناء، ومصدرًا للعطاء. تحتضن الجميع، توزع الابتسامات وتخفي ما تستطيع إخفاءه، وتبقى التفاؤل والفرح وكأن المرض زائر يحضر معه السعادة. ما أعجبك يا أمي، كنت حتى في اللحظات الأخيرة تبتسمين. «شيء بسيط لا يستحق القلق لا تشغلوا بالكم». وتروين تعليقًا ساخرًا وقصة مضحكة من الذكريات، ويضحك الجميع. أي مرض هذا الذي كان يوهمنا أنه موجود، وكنا نسمع به ولا نراه. تتعالين عن المرض بقوة الإيمان وصدق التفاؤل والثقة فيما يختاره الله.
وأتت اللحظة الصعبة. وغادرت يا أمي وغادرت معك أشياء وأشياء. سبحان من ينزل الصبر في قلوب المحتسبين. فاحتسبنا أمرنا لله. الإيمان في اللحظات الصعبة خير علاج. شيء ما انكسر في داخلنا، ولكنها كلماتك وطاقتك الإيجابية التي غرستها فينا جعلتنا أقوى وأكثر تماسكًا. غادرت يا أمي إلى مكان أفضل مما كنت فيه بإذن الله.
رحيلك لم يكن سهلاً. أتحسس مكانك وأترقب جلستك. وأنسى أنك غادرتنا، أدخل إلى مكانك لكي أقبل يدك، وأبدًا يومي كعادتي بدعوتك، فاكتشف أن المساحات مهجورة وباردة. أين الدفء الذي كان يملأ المكان، أين الصوت الذي لزمته الثابتة الدعاء «الله يجعل لك يا ولدي في كل خطوة سلامة، ويسخر لك القلوب». رحيلك صعب يا أمي...
غيابك صعب علينا يا أمي، وما أصعبه على أبي، فبعد عشرة عمر وحياة مشتركة لأكثر من نصف قرن يصعب الفراق. كنا ندرك أن المساحة التي تركتها صعب أن يملأها أحد، فتحولنا، أسرتنا كلها، إلى فريق مصاحب لوالدي على مدار الساعة. كان يبتسم ويقول لست عاجزًا ولا تقلقوا أنا بخير. ويضحك (هذا بر منكم والا وصية أمكم).
كان، والدي الدكتور فهد بن جابر الحارثي، كعادته كبيرًا في كل شيء. يستند إلى إيمان عميق وقبول بالقدر. ندرك، نحن الأبناء، أن رحيلها خطف منه أشياء لا تعوض. لكنه يستند إلى إيمانه القوي، وتماسكه المثير. وإذا ما شعر بموج من الشوق يهز كيانه لجأ إلى صديقه الأبدي الذي يرافقه دومًا في الهزيع الأخير من كل ليل، واستشهد بآية منه (وَبَشّرْ الصّابِرِينَ * الَّذِينَ إذا إصابتهمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وأولئك هُمْ الْمُهْتَدُون).
كنت أنظر لهما واستعجب من الحب والألفة التي بينهما رغم السنين. قصة حب نراها كل يوم يتشاركان في كل التفاصيل، ويحرصان على الجلسة العائلية المشتركة التي تجمع الأسرة في المساء أيًا كانت الالتزامات. وابتسم منهما، فأمي حتى في أيامها الأخيرة إذا ما سمعت صوت أبوي قفزت كمراهقة مرتبكة تستعد فيها للقاء، ووالدي منذ طفولتنا لا أتذكر أنه سافر ما لم تكن إلى جانبه. سعادتهما كانت باختصار وجودهما إلى جوار بعض.
بقيت يا أبي كما عرفك محبوك وأصدقاؤك نهرًا من العطاء، بشوشًا في وجه الآخرين، محبًا للخير، مجلسك يجمع مختلف الشرائح في المجتمع، وكل شخص يشعر أنه الأقرب إليك. تفرح لحضور الناس، وتقلق لغياب من اعتاد الحضور. وتسأل عن أحوال من تعرف، ويصل خيرك سرًا لمن يحتاج، فكسبت الرضا في الدنيا، والأجر في الآخرة.
قارئ نهم منذ أن عرفتك. تقرأ في كل المجالات في الأدب والفلسفة والتاريخ والسياسة. وتحب إثارة الحوارات الفكرية فتطرح قضية وتفتح باب النقاش. حتى في فترة مرضك كانت كتبك إلى جوارك. وتسأل عن معرض الكتاب وتطلب إحضار قائمة كتب معينة. تعملت منك أن العلم رسالة وأن الحياة مبادئ. لم اسمعك تتكلم سلبًا عن أحد، ولا تسيء لأحد، بل جملتك الشهيرة عند ذكر أي شخص (الله يذكره بالخير).
كم كان وداعك مهيبًا يا أبي. آلاف الأشخاص من كل مكان أعرف بعضهم، وكثيرون لا أعرفهم، هذا أحد طلابك قبل أربعين سنة يحكي ودموعه تسبقه كيف غيّرت مسار حياته. وهؤلاء مجموعة من حملة الدكتوراه يحكون كيف حينما كانوا معلمين في المدارس الابتدائية، حفزتهم لإكمال تعليمهم وعملت لهم استثناء وهم على رأس العمل، وآخر يحكي عن خلاف كاد يتطور إلى الأسوأ بين قريتين على مشروع مدرسي فجمعتهم في منزلك فتحول العداء إلى محبة والمشروع إلى مشروعات. سبحان الله. الخير يثمر حتى ولو بعد حين.
ونحن نصلي عليك في بيت الله الحرام، ونودعك الوداع الأخير، تذكرت كم كان هذا البيت عشقك وشاغلك. تتأخر علينا كل مرة، فنتصل عليك فتقول هزني الشوق إلى بيت الله فذهبت إلى هناك. وكأنك تدرك أنه سيكون موعدك الأخير ومكانك الذي اخترته لتوديع أهلك ومحبيك. وأتذكر حينما أدينا الحج سويًا ونحن على صعيد عرفة، لم تترك أحدًا لم تدع له العامل في المنزل والسائق الأبناء والأصدقاء. محيط كبير من العطاء، وقيم لا تتغير. بالفعل القلوب الكبيرة مفطورة على العطاء.
هل تفيك الدموع التي سكبت عليك، أم الدعاء الذي لم ينقطع من محبيك لأجلك. تغادر يا أبي وتنتزع معك أشياء لا تسترد. تلك الطمأنينة التي تضفيها على من حولك، وذاك الحب الذي تبثه في محيطك. سنفتقدك يا أبي، ستترك عالمًا شاسعًا فارغًا من الحياة، ورصيدًا من الذكريات لا ينتهي. وليس لنا إلا الدعاء. كيف للمساءات أن تكون بدونك، وتلك الزوايا من يملأها غيرك. والنقاشات المثيرة من يبدأها في غيابك. كيف يا أبي.. أصارع الشوق والحنين لك.
ما يخفف علينا المصاب أنك بإذن الله في مكان أفضل، تعود إلى حبيبتك ورفيقة عمرك أمي، تجتمعان سويًا. فأنا أشعر أنها في شوق لك، وأنت في لهفة إليها. لذلك لم تطل الانتظار فتبعتها بعد شهور بسيطة وكأنك تسابق الزمن للقائها. وكأن المستحيل فراقكما، والطبيعي اجتماعكما.
ونحن نتلهف إلى لقائكما ونستبشر بما يكتبه القدر، ولا ندرى من يكتب الله له ساعته، ولكن أسأل الله أن يجمعني بكما فهذه هي جنتي ومرادي. والحمد لله على كل حال. ونبقى دائمًا بروح التفاؤل والسعادة والعطاء، فهذه دروسكما ووصاياكما، ونحن عليها سائرون.
**
- إعلامي سعودي. مقالة رثاء في والده، أحد رواد الحركة التعليمية والتربوية في السعودية الدكتور فهد بن جابر الحارثي - توفي رحمه الله إثر عارض صحي ألم به
** **
- محمد فهد الحارثي