د. حسن بن فهد الهويمل
من ظن أن فلول (الصليبين) مُسْتَخِفُّون بالإسلام, تماشياً مع وضع المسلمين المتردِّي, فقد عرَّض نفسه لمزيد من الذل, والهوان.
المسلمون غثاء - هذه مسلّمة - وقصعتهم تكاد تخلو من المأكول. ومن الأكلة؛ إذ لم يبق فيها مطمع. ولكن (الإسلام) يظل محتفظاً بجولات منهكة, ومخيفة للخصوم: تغيب اللغة, ولا تضمحل, ويغيب الإسلام, ولا ينمحي.
الإسلام الحق ماردٌ مصفد باللعب, والمؤامرات, وقابلية أهله لكل مذلة. وخوف الأداء منه، وهو مصفد، كخوفهم منه، وهو طليق يركض برجله.
سلاح المستعمر التفريق. وتفريق المسلمين جاء على صور شتى:
- فُرِّقوا أرضاً.
- ومُزِّقوا فكراً. بل فُرِّقوا قبولاً, ورفضاً لضوابط الإسلام, ومحققاته.
- فُرِّقُوا في العادات, والأزياء, وغير ذلك بحيث تتعدد موانع الوفاق.
لقد تلوَّن المستعمر, فجاء: علمانياً في مكان، وليبرالياً في آخر، وإسلامياً: متطرفاً, أو وسطياً في مكان ثالث؛ لأن التعدد مَظِنَّة التفرق, والشحناء.
كل معوق من اليسير تجاوزه إلا حواجز الفكر. اختلاف المفكرين مطلب حضاري, متى أحسنوا إدارته, ومتى قبلوا التعايش, والتصالح, وتركوا التعصب, وحب الانتصار.
أما حين (يؤدلِجون) فكرهم, ويتعصبون له, ويظنون التحرف مُرُوقاً من الدين, فإن ذلك سيدخلهم في نفق الفتن, التي قد تتجاوز الجدال باللسان, إلى المواجهة بالسنان. وهذا ما تعانيه الأمة الإسلامية في راهنها, قتال حول (البيضة, والدجاجة) أيهما الأصل.
المفكر العاقل, المجرب, الحصيف يعرف الأجواء, واحتمالاتها, ويعرف الاستدراج, وتخيفه نوايا العدو الجلد, الذكي غير الزكي, ويرتب أموره على ضوء متطلبات المرحلة. يتقي تقاة, ولا يداهن, يصالح, ولا يذوب.
هناك ملفات لا يتطلب الواقع فتحها، وقضايا لا تحتاج إلى مزيد من الإضافات، ومذاهب تجاوزها الزمن. والأخسرون أعمالاً هم مَن يجترون ما سلف ببلاهة معتقة.
لسنا بحاجة إلى فتح ملفات سلف إغلاقها, ولا إلى معارف تقصاها السلف, فما بين أيدينا كاف لاستغلال الجهد, والوقت.
نحن أمام مفكرين من نوع آخر, جاؤوا بقضايا جديدة, لا يعرفها السلف, ولا يحتاج لها الخلف. فهي كـ(علم المنطق) في بعض صوره, لا يفهمه العامي, ولا يحتاج إليه العالم.
لقد مرَّ بنا علماء أجلاء, توافقيون فرضوا احترامهم على من حولهم, وعلى من جاء بعدهم؛ لأن هدفهم الحق, وقضيتهم المعرفة, تفكيرهم في تجلية الأحكام, لا في تحقيق الانتصار, لم تحل مذاهبهم دون الخوض في المسائل كافة على مختلف انتماءاتها, وأصولها.
مَن منا لا يعرف (النَّووي) و(ابن حجر العسقلاني) و(السيوطي) ومكانتهم عند (أهل السنة والجماعة), مع أنهم (أشاعرة), والأشاعرة أكثرية (أهل السنة والجماعة). ولكن المتعصبة منهم - وهم قليل - يُصَدِّعون اللحمة, ويستبعدون التعايش, والوفاق.
هؤلاء الأفذاذ صرفوا النظر عن نفي الآخر, ووجهوا هممهم العالية لنشر العلم؛ فكانوا أئمة للسلفيين, وصارت كتبهم تسبق ما سواها.
فأين نحن من: (الفَتْح) و(الرياض) و(الأذكار) و(الأربعين) و(الجلالين).
ما لا نوده من مفكرينا التعصب الفكري, والتعصب المذهبي.
إن هناك تعصبًا من أجل المناهج, والآليات، فضلاً عن المفاهيم, والقناعات.
(التقنية الحديثة) عرّت التافهين, وكشفت سوءات المتردية, والنطيحة.
العلم والفكر نمو متواصل, لا قطيعة مشتتة. وواجب العلماء والمفكرين إثراء المشاهد بالمعارف, لا زرعها بالخلافات, والعداوات.
كل مفكر ناصح زكي ذكي هدفه إثراء المشاهد بما ينفع الناس في دينهم, ومعادهم:- (إن الحَلال بيّنٌ, والحَرامَ بيّنٌ, وبينهما أمورٌ مُشْتَبِهات, لا يعلمهُن كثير من الناس. فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه, وعِرضه. ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام. كالرَّاعِي يَرْعَى حول الحِمَى يوشك أن يقع فيه) أو (يَرْتع فيه).
أملنا في مفكرينا رأب الصدع, وتحامي الصدام, وقبول الآخر في حدود المقتضى الشرعي, وعلى ضوء «افعل ولا حرج» دون تمييع, ولا إطلاق.
القادة, والعلماء, والمفكرون هم الأقدر على التهدئة, والتنوير, والتحذير, والتيسير, والوسطية.
الله لم يطلب منا المستحيل, ولم يكلف نفساً إلا وسعها, ولم يطلب من التقوى إلا المستطاع:- {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}.
لو التقت كلمة الثالوث: (القائد, والعالم, والمفكر) على كلمة سواء لاستراحت الأمة, واستعادت عافيتها, وواجهت أعداءها بندية.
ما نوده من نخب أمتنا, تجَنُّب التفخيخ للأدمغة, والتلغيم للأرض.
إن بإمكان المفكرين تفريغ الأدمغة من ضلالاتها, وملئها بما يُرضي الله, ورسوله, وصالح المؤمنين.
أمتنا الإسلامية بانتظار من يجدد لها أمر دينها, إنه آت ولا شك. اللهم اجعله من بيننا.
جزيرة العرب التي درج على أديمها خاتم الأنبياء, ووسعته حيًّا, وميتًا, ونسل من فجاجها قادة الأمة, من علماء, ومجاهدين, وقامت على ربوعها المقدسات, ستظل ولودة, ودودة. وسيظل قادتها, وعلماؤها, ومفكروها مُيَسِّرين, لا مُعَسِّرين. مؤلِّفين لا منفرين.
اللهم وقد اخترتهم لأطهر البقاع فاجعلهم الأفضل علماً, وعملاً.