الجبال خَلْقٌ من خلق الله تعالى، قد يكون لها من الشعور ما للإنسان، فقد ورد في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أُحُدًا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فَقَالَ: «اثْبُتْ أُحُدُ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ، وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ».
والجبال التي نراها ثابتةً راسخة لم يثبت العلم أنها تتحرك إلَّا مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، ولقد أخبرنا ربنا بأنها تتحرك منذ أكثر من أربعة عشر قرناً يقول تعالى في سورة النمل (آية 88): {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}. إنها تتحرك حركة حول محورها، وحركة حول الشمس دون أن نشعر بذلك، بل لا نشعر بحركة لها إلَّا إذا أصابتها هزة أو ضربها زلزال، فهل تتكلم الجبال؟!.
يخطئ من يظن أن الصخور الصلبة، والأحجار الجامدة لا تتكلم، فلكل منها لغتها، التي لا نعيها ولا ندركها، وفي القرآن الكريم يقول الحق تبارك وتعالى في سورة الإسراء (آية 44): {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}. نعم.. نحن لا نفقه كنه تسبيح هذه المخلوقات الجامدة، ولا نسمعه، فليس بالضرورة أن تتحدث بلسان كلساننا، وتتفوه ألفاظاً وكلمات ككلماتنا وألفاظنا، فحديثها غير منطوق، ومنطوقه غير مألوف، وصدق المعرِّي حين قال: «وقد تَنْطِقُ الأشياءُ وهْيَ صَوَامِتٌ... وما كُلّ نُطْقِ المُخْبِرينَ كلامُ».
فقد يكون حديث الجبال تبصير للإنسان إلى ما وهبها الله من طبيعة، وما أسبغ عليها من صفات الجمال والجلال، فتحدثنا عن عظمة خلق الله وجمال إبداعه، فنلتفت إليها وإلى ما فيها، أو تحدثنا، بلغة يدركها الجيولوجي العالم الخبير، عمَّا فيها من مقدرات وثروات، أو تحدثنا عمَّا مرَّ بها من تاريخ وأحداث، أو ما سُجِّل على أحجارها من نقوش وكتابات بلغة يفسرها المؤرخ البصير والحاذق باللغات.
وجبل عكمة الذي يقع على بعد ثلاثة كيلومترات شمال غرب مدينة العُلا، أحد الجبال التي تخبرك بالكثير. هذا الجبل الشاهق، المصبوغ حمرة، الراسخ في مكانه، والشاهد على مرور الأيام والحِقب، يحمل على صفحته نقوشاً وكتابات ورسومات، تحكي تاريخ المنطقة، والحياة فيها، خلال حقبة تاريخية مميزة، فكانت صخوره وما خُطَّ عليها سجلاً موثِقاً لحضارة ازدهرت ولمع نجمها في سماء الجزيرة العربية والشرق لفترة تاريخية ليست بالقليلة، وهي الحضارة اللحيانية.
ومملكة «لِحيان» مملكة عربية قديمة، قامت في شمال الجزيرة العربية، وكانت امتداداً لمملكة «دادان»، وقد بسطت سيادتها على المنطقة منذ القرن السابع قبل الميلاد (قيل القرن الـ 9 ق.م ) وحتى القرن الثاني قبل الميلاد. فقد امتد سلطانها حتى شمل معظم أجزاء شمال الجزيرة العربية، وكانت عاصمتها على الأرجح في المكان المعروف حالياً بمنطقة «الخريبة» في مدينة العلا حاليًا، وامتدت حتى قبيل مدائن صالح (الحجر شمالًا). ويعضد هذه الفرضية انتشار الكتابات اللحيانية في أنحاء المنطقة كما في جبل الخريبة، وجبل عكمة، ووادي ساق، وتلعة الحمادي، وأبي عود وغيرها.
واللغة التي كتبت بها هذه النقوش والكتابات، لغة مملكة لحيان، هي اللغة العربية الشمالية، خطها مشتق من الخط المسند الجنوبي، وهو وسيلة التعبير بها وعنها، وعدد حروفه الهجائية 28 حرفًا كما هو الحال في اللغة العربية اليوم (البعض يقول 27 حرفاً). والكتابة اللحيانية التي عثر على العديد منها في أماكن مختلفة في العلا، ومنها جبل عكمة، نفذت بثلاث تقنيات رئيسة، هي:
تقنية الكتابة البارزة، وفيها يتم تفريغ ما حول الحروف فيصير مستوى الحروف بارزاً وما حولها من فراغات منخفضة المستوى، وعادة ما تكون هذه الكتابات منسقة في أسطر متوازية، وتوضع خطوط أفقية للفصل بين الأسطر، وبعضها كان يوضع داخل إطارات أو «براويز».
والتقنية الثانية هي الكتابة الغائرة، أو المحزوزة، حيث يقوم الكاتب بحز الأحرف على الصخرة بأداة حادة وبالتالي تبدو الأحرف، أو الكلمات المكتوبة، غائرةً في الصخر. والتقنية الثالثة في الكتابة اللحيانية هي الكتابة بالنقر، حيث يتم نقر الأحرف على الصخر، وعادة ما تكون الأحرف فيها سميكة، وفي صورة مخربشات ناقصة غير مكتملة.
وتكمن أهمية الكتابات والنقوش والرسومات في منطقة جبل عكمة في كونها سجلاً تاريخياً وحضارياً. فعلى الرغم من أن معظمها يتناول أموراً شخصية في الغالب، إلَّا أنها تمدُّنا بمعلومات مهمة عن مملكة لحيان، وحضارتها، والمجتمع العربي اللحياني القديم، وأوضاعه الحياتية والإنسانية، والحياة الدينية وما فيها من تقديم للقرابين والنذور، أو تقديم الزكاة، أو الحج للمعبودات، ومعلومات حول ما يحكم مجتمعهم من قوانين وتنظيمات.
كما يعطي صورة عن الوضع الاقتصادي، وأنظمة الضرائب والخراج، وعلاقة اللحيانيين بمن حولهم في محيط الجزيرة العربية تجارياً وسياسياً. كما أمكن من خلالها التعرف على العديد من أسماء الشخصيات، والآلهة، والحكام،. ولعل أهم ما يميز بعضها أنه مؤرخ بسنوات حكم ملوك لحيان؛ مما ساعد على معرفة التسلسل الزمني للحكم في مملكة لحيان، وكذلك الوقوف على مراحل تطور الكتابة من خلال أشكال الحروف. كما كشفت عن المعاملات التجارية من بيع وشراء، التي اعتمدت بشكل رئيس على نظام المقايضة. وكذلك كشفت النقوش والرسومات الصخرية عن حياة اجتماعية لا تخلو من الترفيه، فيبدو منها أنهم كانوا على دراية بفن العزف على الآلات الوترية كالسمسمية المعروفة اليوم، والطبول، والمزامير، فقد وُجِدَتْ منقوشة على إحدى الواجهات الصخرية لجبل عكمة بأشكال وأحجام مختلفة.
والكتابات في جبل عكمة، وغيرها من الكتابات في الأماكن الأخرى، تدل على مظاهر تحضر اللحيانيين ومعرفتهم ببعض المهن والحرف الدقيقة، كصياغة المعادن والنحت.
كل هذا تخبرنا به الكتابات والنقوش والمخربشات في جبل عكمة، والتي يصفها البعض بأنها مكتبة متكاملة من الكتابات والنقوش اللحيانية، تنتشر على واجهات الصخور في واد ضيق ينحدر من الجبل الشاهق، وكذلك على صفحات الصخور في أعلى الجبل. ولعل ما ساعد على إنجاز هذه النقوش والكتابات طبيعة صخر الجبل، فالمكون الأساسي للجبل، أو الصخر، هو الحجر الرملي، وهو حجر رسوبي النشأة يتميز بإمكانية تشكيله، والكتابة عليه حفراً ونقشاً ونحتاً.
و»بانوراما» الموقع بارتفاع الجبل الشاهق، ولونه الذي يصطبغ بالحمرة الداكنة، وفساحة الأرض الرملية السهلية المنبسطة أمامه، ذات اللون الأصفر والأحمر، والخضرة المُطلَّة عليه من مزارع النخيل في جواره، جميعها تشكِّل لوحة طبيعية بديعة من إبداع الخالق جلَّ وعَلَا.
والموقع في حاجة إلى تسجيل وتوثيق ورفع وتفريغ لكل الرسومات والنقوش والكتابات التي توجد فيه، كمرحلة من مراحل الحفاظ التوثيقي والتاريخي له، ولعل من الجدير بالذكر هنا أن أشير إلى الجهد الكبير الذي بذله الدكتور الحسين أبو الحسن في دراسة وتوثيق النقوش اللحيانية والتي تضمنتها رسالته للماجستير عام 1996م ونشرت عام 1997م في كتاب يحمل عنوان «قراءة لكتابات لحيانية من جبل عكمة بمنطقة العلا»؛ إذ شملت دراسته مئة وستة وخمسين نقشًا لحيانيًّا من جبل عكمة إلى جانب إعادة دراسة 40 نقشًا لحيانيًّا كان قد قامت بدراستها الباحثة الألمانية «روث شتيل»، كذلك دراسته لـ 151 نقشًا لحيانيًّا في رسالته للدكتوراه عن نقوش لحيانية من منطقة العلا .
هذه الثروة الكبيرة من الكتابات وهذا الثراء من النقوش والمخربشات قد تكون عرضة، بمرور الزمن، إلى ما يمكن أن يسبب لها التلف، خاصة أنها في بيئة مفتوحة كثيراً ما تثار فيها الرياح والعواصف المحملة بالرمال، والتي لا شك سوف تصفع الصخور وما عليها فتعمل فيها نحراً وخدشا، لطيفاً كان أم عنيفا، سوف يحدث تآكلاً وتلفاَ وتشويها لهذه الكتابات والنقوش بمرو الوقت، ناهيك عن الأمطار وما تسببه من إذابة لبعض مكونات الحجر الرملي وخاصة للمادة الرابطة بين حبيباته وهو ما يجعله هشاً وقابلة للتفتت بمرو الزمن، وخاصة إذا ما تعرض للرياح والعواصف بعد ذلك، هذا بخلاف الشمس وحرارتها وما فيها من أشعة ضارة، وإن كان تأثيرها يعدُّ تأثيراً ضعيفاً أو قليلاً، فيما تصبغه على الصخور من صبغة أو ورنيش صخري، فمع مرور الزمن يصير القليل كثيرا والضعيف قويا.
كما أن تذبذب الحرارة ما بين الليل والنهار، والصيف والشتاء، وما يصاحبه من تمدد وانكماش في بعض المكونات المعدنية للصخور في المكان سوف يتسبب، وأظنه تسبب بالفعل، في تساقط وانفصال بعض الصخور أو الطبقات السطحية الحاملة للكتابات والنقوش، وهو ما قد يؤدي إلى ضياع مثل هذه الثروة، أو البعض منها، بمرور الزمن. وهناك عامل آخر يشكِّل خطورة بالفعل على العديد من الصخور الحاملة للكتابات والنقوش المميزة في هذا الموقع، ويتمثل في هطول الأمطار الشديدة في بعض أوقات السنة على الجبل، وجريانها منحدرة من أعلاه إلى أسفله، في صورة سيل جارف، حيث الوادي وما فيه من صخور حاملة للكتابات والنقوش، وناهيك عن احتمالية جرف بعض الصخور في طريقه، كما أن هذه المياه سوف تؤدي إلى ارتفاع معدل الرطوبة في هذه الصخور المسامية وبالتالي تعرضها لتآكل بعض كتابتها أو انفصال طبقات منها، أو للتفتت بفعل التمدد والانكماش والرطوبة والجفاف.
ولولا أنني ممن يعارضون نقل الآثار من مواقعها، لارتباطها العضوي والتاريخي ببيئتها ومحيطها، ولأن نقلها من مكانها يفقدها الكثير من الإحساس بها، كما يفقدها الكثير من بريقها فتصير فاقدة للحياة كفقد الأسماك لحياتها إذا أُخرجت من الماء، لقلت بنشر هذه الكتابات المعرضة للتلف، أو التي يُخشى انفصالها وتقشرها أو تآكلها، ونقلها إلى المتحف حفاظاً عليها من الضياع. وقد يكون من المقترحات التي يمكن التفكير فيها أن يتم عمل مظلة واقية كبيرة تظلل المكان وتحميه من أشعة الشمس ومن الأمطار، ومحاولة إيجاد طريق آمن لجريان الأمطار أو السيل في هذا الوادي، أو التحكم في مجراه؛ تفادياً لما يمكن أن يسببه من مشاكل.
وهناك أمر ضروري ومفيد، ويمكن تنفيذه بسهولة، وهو تقويتها، وعزلها، بمادة مقوية من البارالويد بـ72 (Paraloid B-72) أو البالويد بـ44 (Paraloid B-44)كما يمكن استخدامهما كعازل أو كغطاء واقٍ لها، ويفضل الأخير منهما لتحمله لدرجات الحرارة العالية، حيث تصل درجة تحوله الزجاجي (Tg) إلى 60 درجة مئوية، بينما الأول 40 درجة مئوية، على ألا تزيد درجة تركيزه عن 5 % عند استخدامه كمادة مقوية، وعن 3 % إذا استخدم كغطاء واق؛ حتى لا يكَّون غشاءً لامعاً عليها أو يتعرض للتكسر. كما يمكن تغطية هذه النقوش والكتابات بغطاء من زجاج البرسبكس الشفاف والواقي لها في الوقت نفسه.