في تاريخ أي أمة، هناك الكثير من قصص التضحيات والبطولات التي تبين قدرة تلك الأمة على البقاء. هذه القصص هي مصدر إلهام للأجيال المتعاقبة وشاهد على قدرتها على الاستمرار. فقد كانت فترة قيام الدولة السعودية واستقلال الولايات المتحدة الأمريكية متقاربة فقد تأسست الأولى عام 1744م وأعلنت الأخرى استقلالها عام 1776م. ومنذ قيام الدولة السعودية، ناصبتها الدولة العثمانية العداء وحاولت بحملات كثيرة التدخل في شؤونها والقضاء عليها. كما أن بريطانيا عارضت استقلال الولايات المتحدة وحاولت منع ذلك بالقوة المفرطة. وهذا يقودنا إلى درس مهم من دروس التاريخ وهو أن الأفكار والرموز والكيانات لا يمكن القضاء عليها بالتدمير والإحراق والقتل وأنها باقية ما دام أن هناك شعبا يؤمن بها ويتمسك بها. في هذا المقال سأعرض مقارنة بين تدمير الدرعية على يد القوات العثمانية وإحراق واشنطن على يد القوات البريطانية والآثار القريبة والبعيدة لها.
قامت الدولة العثمانية بإعلان الحرب على الدولة السعودية وذلك بنزول حملة طوسون باشا في ينبع والتي أعقبتها الهزيمة الكبيرة لتلك القوات في معركة وادي الصفراء عام 1811م. بعد ذلك وصل محمد علي بنفسه لقيادة الحملة ثم وصلت الحملة الثانية بقيادة إبراهيم باشا التي توجهت إلى الدرعية لحصارها. استمرت الحرب حوالي 7 سنوات، وكلفت خزينة الدولة العثمانية الكثير من الأموال والعتاد والرجال. وقد قامت الحملة بأعمال تدمير وقتل في الطريق بين قاعدتها في المدينة المنورة والدرعية. وصلت القوات العثمانية إلى الدرعية وحاصرتها أكثر من 6 أشهر وبعد ملحمة دفاعية عظيمة استطاعت دخولها ودمرت معظم أجزائها وأحرقت دورها ومزارعها ومكتباتها. ومع كل تلك الأعمال الفظيعة التي قام بها العثمانيون، استمرت جذوة البقاء والاستمرار والوحدة وكانت أقوى من كل تلك الأفعال حيث استطاع الإمام تركي بن عبدالله إعادة تأسيس الدولة بعد فترة وجيزة.
بعد انطلاق حملة طوسون بعام واحد اندلعت الحرب بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى بسبب استفزازات بريطانيا الكثيرة لحركة الملاحة في المحيط الأطلسي واستهدافها للسفن الأمريكية في فترة الحروب النابليونية وقيامها بإرغام المواطنين الأمريكيين الخدمة في سفنها بحجة أنهم مواطنون بريطانيون. وكذلك تشجيعها لهجمات السكان الأصليين ضد المدن الأمريكية رغبة منها في إثارة القلاقل والفوضى فيها. وقد عرفت هذه الحرب في التاريخ بحرب 1812م وقد كان الرئيس الأمريكي حينها هو الرئيس جيمس ماديسون. كان الأمريكيون حانقين على البريطانيين بسبب عدوانهم ويعلمون مقدار الرغبة البريطانية في استعادة تلك الأراضي. وفي عام 1814م قامت قوة بريطانية بقيادة القائد روبرت روس بدخول واشنطن العاصمة وقامت بإحراق المباني الحكومية ومنها البيت الأبيض ومبنى الكونغرس والخزانة وكانت نيران الحرائق ترى من مدينة بلتيمور حوالي 60 كم، وقامت باحتلال المدينة بشكل مؤقت ثم انسحبت بعد ذلك في حملة تخريب داخل ولاية ماريلاند. ومع كل تلك الأحداث الجسيمة المؤثرة في معنويات المواطنين الأمريكيين وحكومتهم، لم تتأثر الولايات المتحدة وبقيت صامدة.
كلتا الحربين (الحرب العثمانية على الدولة السعودية وحرب 1812م) كانتا متزامنتين في الوقت والفترة وكلتا الدولتين (السعودية والأمريكية) كانتا تواجهان عدوين قويين يمتلكان مقدرة كبيرة جداً اقتصادياً وعسكرياً وقد ظنت بريطانيا والدولة العثمانية أنهما يمتلكان القدرة على تدمير فكرة الوحدة التي قامت عليها الدولتان ولكنه كان ظناً خاطئاً. ومرت السنوات وفي الوقت الذي سقطت فيه الدولة العثمانية، كان الملك عبدالعزيز متربعاً على عرش دولة عظيمة تضم معظم أرجاء الجزيرة العربية واستمرت هذه الدولة شامخة وقوية حتى يومنا هذا بل هي من أقوى دول العالم سياسياً واقتصادياً. وفي الوقت ذاته، فقد سقطت الإمبراطورية البريطانية وأصبحت بريطانيا عالة على الولايات المتحدة الأمريكية والتاريخ يشهد للأخيرة بوقوفها بجانب بريطانيا في الحربين العالميتين وأنها حمتها من الدمار بل وأصبحت أعظم قوة في العالم في وقتنا الحاضر.
خلاصة هذا المقال أنه مهما حاولت قوة من القوى القضاء على فكرة الوحدة في أي بلد ومهما تسلطت تلك القوة على أهالي تلك البلاد فإنها لن تستطيع القضاء على تلك الفكرة لرسوخها وثباتها في النفوس. كما أنه يعطي فكرة عن التشابه في الحالة بين قيام الدولة العثمانية الهجوم على الدولة السعودية الأولى وهي دولة مستقلة وهجوم بريطانيا على الولايات المتحدة وهي دولة مستقلة. ويطرح تساؤل عن النظام السياسي العالمي في تلك الفترة وكيف كانت الدول تهاجم الدول المستقلة في محاولة للقضاء عليها دون أي ردة فعل.
** **
محمد بن علي العبداللطيف/ قسم التاريخ، كلية الآداب - جامعة الملك سعود