سام الغُباري
- أي واحد مِنهم؟
* أوسطهم!
- الذي يلبس الفنيلة الصفراء؟
* نعم..
- ماذا قال لك؟
* يا والد!!
..
ويقهقه صاحبي، وبطرف عينه اليسرى يجتزئ نظرة سريعة إلى شيب ارتسم على فوديّ مثل حدوة حصان، ويعاجلني بلكنته التعزية: لم تحسب نفسك صغيرًا!
فأجفل، أشعر بارتعاشة عُمر مضى دون أن أراه، بثقل ذلك في جفوني، وفي صِحة عينّي وقد كُنتُ صقرًا!، وابتسامة الرضا، عند مقارنة طولك المهزوم مع ابنك الذي ينسلخ من أمامك مثل نخلة، وتود أن تهز جذعه ليرعوي، ويبدأ خيط شاربه بالبزوع مُحدِدًا ملامح فتى يعدو مبتعدًا..
وتتذكر يوم كنتَ تلون شاربه، ويذهب متأرجحًا إلى المرآة سعيدًا، يرى وجهه المستدير ملوثًا ويضحك، يقول لغة لا تفهمها ويشير بأصبعه إلى ذقنه، فألوّنها بقلم أسود، ثم يظهر والدي صائحًا «وسّخت الولد يا وسخ!»، وها أنا اليوم والد يا أبي!، يفجعني بها فتى كُنت مِثله قبل أيام!، وأراني عجوزًا في ناظريه..
حين أرقب السياسيين الذين عرفتهم في صباي يحدقون بطمع نحو كراسي السلطة، أدرك أني ما زلت صغيرًا على الوزارة، وأنهم أحق مني بتلك الكراسي الوثيرة، فلم يمت منهم أحدًا، حتى أشكالهم لم تتغير، هم أولئك العجائز مذ عرفتهم على شاشة التلفاز، وها أنا قد أصبحت «والدًا» ولم أستطع بعد أن أكون واحدًا من أولئك الذين يظهرون بأزيائهم الرسمية في نشرة التاسعة.
ما زلت صغيرًا في نظرهم، ولهذا أحبهم، متمنيًا لهم عُمرًا واسعًا، قال صاحبي مرة أخرى متهكمًا: «لِمَ لا تتضرع قائلاً: اللهم اجعل يومي قبل يومهم!»، ثم يضحك!
في 2011 كنت قد بدأت أشتم رائحة رجل يكبر داخلي، عمره ثلاثين، وفي عقده الجميل المقبل يصنع حياته ويرسم ملامح مستقبله الشخصي، مستقبل عائلته الصغيرة، وعلى الفور طار «حسني مبارك»، كُنت جالسًا على أهداب مقيل جارنا، وعلى بُعد أربعة أعوام دفنت رأسي في منصات إلكترونية، كسِبت منها عداء أشخاص لا أعرفهم، وتقدير قليل، وصراع شرس على أمنياتي الخاصة التي تحولت إلى همّ كبير، ثم وجدتني في السجن، ومنه مهاجرًا إلى أرض لم أكن أعرفها، وتعلّمت، طحنتني ردود الأفعال، وقادتني المكائد إلى استخلاص عِبر جعلت فمي مفتوحًا مثل باب، وعلى أبواب عام 2020 ، صحوت على تربيت يد، وصوت من ورائي يقول: يا والد نسيت المحفظة!
أين إنشتاين لأقول له إني سافرت عبر الزمن بسرعة مدهشة، ولم يمسسني من ذاك العبور شيء، فقط، صِرت عجوزًا، ولم أبلغ الأربعين بعد.. خمسة أيام لأنفذ إليها.. ثم أكتب على جدار صفحتي: {رَبِّ أَوْزِعْنِي}!
(عيد ميلاد مجيد)