د.عبد الرحمن الحبيب
الرأسمالية تمر بأزمة.. لكن منذ متى لم تكن كذلك، فمن ظهورها بالقرن الثامن عشر وهي تمر بأزمة تلو أخرى وتتجاوزها عبر إصلاحات لأسبابها الداخلية أو بسبب هجوم خصومها. فهل ستمضي الرأسمالية قدمًا كما فعلت خلال قرنين ونصف القرن تاركة النماذج المنافسة خلفها، أم أن الأزمة هذه المرَّة أكثر حدَّة؟ مجلة «فورين أفيرز» خصصت عددها يناير - فبراير 2020 لموضوع «مستقبل الرأسمالية»، عرضت فيها مقالات طويلة لأهم مفكري الاقتصاد من مدارس مختلفة، وهنا خلاصة ما طرحوه.
في مقالة «صراع الرأسماليات» يرى الخبير الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش (جامعة نيويورك) أن الرأسمالية تحكم العالم عبر تجارة حرة أغلبها بأيدي القطاع الخاص، والإنتاج يُنسق بطريقة لا مركزية تحفزها الأرباح. وإذا كانت الشيوعية شاركت الرأسمالية بإدارة العالم لأغلب القرن العشرين، فإنه بعد انهيار الأولى، صارت الرأسمالية وحدها الوسيلة المتبقية للإنتاج. يصف كثيرون النظام الحالي بأنه «الرأسمالية المتأخرة»، وكأنه على وشك الانتهاء، بينما يرى آخرون أن الرأسمالية تواجه تهديدًا جديدًا من الاشتراكية؛ لكن الحقيقة أن الرأسمالية موجودة دون منافس، فمجتمعات العالم احتضنت الروح التنافسية والربحية في الرأسمالية، التي بدونهما تنخفض الدخول ويزيد الفقر ويتباطأ الابتكار التكنولوجي. إذن، المعركة الحقيقية هي داخل الرأسمالية، بين نموذجين يتصارعان من أجل التفوق: معسكر جدارة ليبرالي، تقوده الديمقراطيات الصناعية المتقدمة، ومعسكر سياسي بقيادة الدولة، تتزعمه الصين. كلاهما لديه مشكلات كبيرة تلوح بالأفق.
فأي النماذج أفضل؟ يحاول الإجابة الفائزان بجائزة نوبل للاقتصاد أبهيجيت بانيرجي واستير دوفلو بمقال «كيف ينتهي الفقر؟» رغم تزايد عدم المساواة بالبلدان الغنية، كانت العقود القليلة الماضية جيدة لفقراء العالم. بين عامي 1980 و2016، تضاعف متوسط دخل النصف الأدنى من أصحاب الدخول، وانخفض المصنَّفون في «فقر مدقع» (أقل من 1.9 دولار - يوم) بأكثر من النصف منذ عام 1990، من نحو ملياري إلى نحو 700 مليون نسمة خاصة بالصين والهند. لم يسبق بتاريخ البشرية خروج الكثير من الناس من الفقر بهذه السرعة. لكن الآن، تباطأ النمو بالصين والهند، فهل يستطيعان تجنب الركود؟ وهل يقدمان نموذجًا جيدًا يمكن لدول أخرى تقليده، وينتشل ملايين البشر من براثن الفقر؟ قضى الاقتصاديون، بمن فيهم نحن، مهنتهم بأكملها متخصصين بدراسة التنمية والفقر، والحقيقة غير المريحة هي أن هذا التخصص لا يزال ليس لديه فكرة جيدة عن سبب توسع بعض الاقتصاديات؛ والنتيجة أنه بدلاً من البحث عن نظريات كبرى، يجب على الحكومات التركيز على التدخلات المباشرة للمساعدة في تحسين حياة الناس.
أفضل طريقة لتدخل الحكومة هي بزيادة الضرائب مع زيادة الدخل، كما يرى مجموعة باحثين (جوزيف ستيجليتز، تود تاكر، جابرييل زوكمان) بمقالهم «الدولة الجائعة». منذ آلاف السنين، لم تزدهر الأسواق دون مساعدة الدولة من أنظمة ودعم: توفير السلع الأساسية والصحة والتعليم وتصحيح إخفاقات السوق.. لا يمكن لأي سوق ناجح البقاء دون دعائم دولة قوية وفعَّالة. هذه الحقيقة البسيطة يتم نسيانها اليوم ويتم تقليص الضرائب بأمريكا وبدرجة أقل في بلدان غربية أخرى، بحجة أن الضرائب تعيق النمو الاقتصادي. لهذا التحول عواقب مباشرة: بنية تحتية متهالكة، تباطؤ الابتكار، تناقص النمو، تزايد عدم المساواة، انخفاض متوسط العمر، الشعور باليأس بين قطاعات كبيرة من السكان..
تمضي مياتا فانبوليه أبعد من ذلك بمقالها «انهيار الليبرالية الجديدة».. فالعقيدة المبنية على الإيمان بالأسواق الحرة، وإلغاء القيود، والحكومة الصغيرة، التي هيمنت خلال الأربعين سنة الماضية، قد بلغت نهايتها. الرأسمالية في أزمة حقيقية من ركود عالمي وكوارث بيئية وتفاوت بالدخل، فأغنى 10 في المائة منهم يملكون نحو نصف إجمالي الثروة، بينما 40 في المائة الأدنى يملكون 3 في المائة فقط، فيما تزداد صعوبة الحفاظ على مستوى معيشي لائق. يشير المدافعون عن الليبرالية الجديدة إلى أنه رغم ذلك زاد الرخاء العالمي، فأكثر من مليار شخص قد انتشلوا من براثن الفقر؛ لكنهم يتجاهلون الدور الحاسم للحكومات بهذا التغيير عبر توفير التعليم والرعاية الصحية والتوظيف. الحل في نموذج اقتصادي جديد «اشتراكية جديدة» يكيِّف المُثل الاشتراكية التقليدية مع الوقائع المعاصرة، وتمكين الناس والمجتمعات بدلاً من الدولة.
على نقيضها جيري مولر بمقاله «وهم الاشتراكية الجديدة» يرى أن الثروة ليست المشكلة، وأن ازدهار الاشتراكية الجديدة هو نكتة رغم تنامي حركة في أقصى اليسار تحاول إحياء تقليد أيديولوجي نائم، هاجسها هو السعي لتحقيق قدر من المساواة، عبر التسوية العقابية (مساواة الفقر) بزيادة الضرائب والتدخل الحكومي التي ستعمل بالنهاية على ضعف الإيرادات المستدامة والنمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي والحريات الفردية. بالرأسمالية نقاط قوة وضعف، وانتقاداتها مألوفة ومفيدة لاستمرار الإصلاح فيها، لكن الحركة الاشتراكية الجديدة شيء مختلف، فلا تكمن جذورها في الديمقراطية الاشتراكية بل في الاشتراكية الديمقراطية، فالأولى تسعى لإصلاح الرأسمالية بينما الثانية تسعى لإنهائها. وإذا وُضعت سياساتها موضع التنفيذ، فإنها ستؤدي إلى كارثة..
زبدة الخلاصة: لا تبدو الرأسمالية نموذجًا عادلاً مما يثير استفهامًا مستمرًا حول شرعيتها، لكنها تبدو الأكثر قدرة على النجاح الواقعي، أو كما يقال هي أقل النماذج السيئة سوءًا.. أما مستقبلها فهو رهينة لمرونتها بين مؤيديها ومعارضيها.. وقدرتها على إصلاحها الذاتي أمام الأزمات، وقدرة خصومها على إيجاد البديل الواقعي..