أ.د.محمد بن حسن الزير
كانت بداية معرفتي بأخي العزيز الغالي أبي سعود (عبدالعزيز بن محمد بن علي الزير) -رحمه الله- تعود إلى زمن بعيد؛ وذلك منذ التحاقنا بالمرحلة المتوسطة في المعهد العلمي في مدينة الرياض العامرة، عام 1383هـ؛ إذ انطلقت زمالتنا ومعها صداقتنا الحميمة، وأخوَّتنا الوثيقة. ولعل من أهم أسباب تلك العلاقة المستمرة ما يتمتع به الأخ (عبدالعزيز) -رحمه الله- من شخصية ودودة، وحضور بشوش، وما يتحلى به من صفات نبيلة، وأخلاق عالية، وسلوك نبيل، وخصال كريمة، وصدق في المشاعر، وروح عالية مفعمة بالحب والتفاؤل، مع عفة في اللسان، ورجاحة في العقل، ورهافة في الحس والوجدان! وحنان جم، يتجاوز فيضه على أسرته الصغيرة من ولده وأهل بيته وذوي قرباه إلى أصدقائه ومحبيه وزملائه! كان إنسانيًّا بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ إيجابية وسمو!
ومن أمثلة هذا الحنان الجم ما يتمثل في قوله في زميل له بمناسبة وداعه عند سفره لتركيا؛ يبتغي العلاج:
أصافح باليمنى حبيبًا مودِّعًا
وأمسح باليسرى الحزينة أدمعا
وكم سرحنا ومرحنا في أفياء أيامنا في المعهد العلمي، ومن بعده في كلية اللغة العربية. وكم كان بيننا من دعابات ومساجلات وطرائف ومقالب مفعمة بالبهجة والمزاح والمرح مع بقية الزملاء والأصدقاء في ذلك الزمن الجميل، وهل ثمة أجمل من أيام الدراسة وزملائها؟ سقاها الله من أيام!
وكانت بيننا بعض المساجلات الأدبية، سواء في النادي الأدبي في المرحلتَيْن المتوسطة والثانوية، أو من خلال الرسائل الأدبية الإخوانية.
وقد تواصلت زمالتنا في كلية اللغة العربية بعد تخرجنا فيها؛ إذ أصبحنا معيدَيْن فيها، إلى أن تمت بعثتنا إلى جمهورية مصر العربية أواخر عام 1394هـ/ 1974م؛ لإكمال دراساتنا العليا؛ إذ التحقنا بقسم اللغة العربية وآدابها في كلية الآداب بجامعة القاهرة. وهناك زادت أواصر العلاقة والتلاحم؛ إذ قضينا معًا وبمعية كوكبة من الزملاء والأصدقاء الرائعين مدة من أروع سِني العمر والحياة بما فيها من تجربة متفردة، غمرتها الحميمية والتناغم، والتعاون والإيثار، والتواصل فيما بيننا أفرادًا وأُسرًا!
وقد استمرت هذه العلاقة بيننا طيبة رخاء محتفظة بحميميتها وأَلَقها عبر الزمن، على الرغم من عوارض الحياة ومفاجآتها؛ حتى ليظن الظان أننا أبناء عمومة بسبب الاسم، وبسبب ما بيننا من أخوَّة وثيقة، ومودة حميمة، هي في يقيني أكثر من قربى النسب وعلاقاته، وأعمق من صلات الدم وباباته، وكما جاء في المثل العربي (رُبّ أخ لك لم تلده أمك)، حتى لتتلاشى معها علاقة الدم إلى حد النسيان؛ لتتقدم عليها العلاقة الأفخم: علاقة الأخوة الإيمانية الأعظم، وما بيننا من رحم العلم الأكرم، وما تولد بينهما من تواصل ومودة أرحم!
والأخ عبد العزيز من أسرة عريقة، عُرفت بالدين القويم، والخُلق الحسن المستقيم، والسمعة الطيبة، والكرم والمروءة والشهامة، وحسن السمت، والفضل، والعلم، أحسبهم كذلك، ولا أزكي على الله أحدًا، ومآثرهم وتاريخهم يشهد على ذلك، وذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء.
وهي علاقة أخوية بيني وبين أخي (أبي سعود)، بقيت على وثاقتها، على الرغم من طول الزمن وتقلباته، وعلى الرغم من تباعد مسافات الأماكن؛ بسبب سفراتي الطويلة خارج البلاد؛ بسبب عملي ممثلاً للوطن الغالي في كل من جمهورية مصر العربية، ملحقًا ثقافيًّا للمملكة العربية السعودية، لمدة أربع سنوات، ثم عملي بعد ذلك في اليابان مديرًا للمعهد العربي الإسلامي في طوكيو (التابع للمملكة العربية السعودية)، وقد بقيت في اليابان مدة تتجاوز خمس سنوات، ومع ذلك ظل هذا التواصل مع أخي (أبي سعود) موصولاً؛ وقبيل وفاته بقليل -رحمه الله- كنت معه ومع بعض الأصدقاء في زيارة أخوية للزميل (فهد بن عمر السنبل) -شفاه الله وعافاه-، ومن بعدها بقليل صحبته في سيارته في زيارة مماثلة للأخ الزميل (عبدالعزيز بن زيد الزير) -رحمه الله وغفر له-؛ وكنا على وشك أن نذهب سوية لزيارة الأخ (فهد السنبل) مرة أخرى لولا مفاجأة فاجعة الرحيل المؤسف لحبيبنا وفقيدنا العزيز أبي سعود - رحمه الله وغفر له، وجعل الجنة مستقره ومثواه - اللهم آمين!
اللهم هذا قدرك! نرضى به، ونحمدك عليه، ولك الحمد دائمًا!
أخونا (عبد العزيز) شخصية محبوبة، مذكورة بكل خير من قِبل كل من أُتيحت له الفرصة ليزامله، أو يعايشه، أو يتعامل معه؛ كان فاضلاً، جادًّا، مجتهدًا، مثابرًا، متفوقًا، متعدد المواهب والإمكانات الذهنية والمنهجية.
كان -رحمه الله- صاحب الترتيب الأول، في الغالب، بين الزملاء، ثم كان -فيما بعد- أستاذًا متميزًا في كليته وبين زملائه. وإلى جانب تفوقه العلمي، وثقافته الواسعة، كان متفوقًا في مواهبه الأخرى؛ فقد كان خطاطًا ماهرًا، وكان شاعرًا مطبوعًا؛ وكان قد اختار لنفسه اسمًا مستعارًا، لقّب نفسه به، وهو لقب «سمير القمر»، وقد جاء ذكر ذلك في قوله: «... ويحييكم سمير للقمر».
إلى جانب أنه كان في وقت من الأوقات فنانًا في التقاط أفضل الصور إخراجًا من خلال أفضل العدسات الاحترافية لإخراج الصور الضوئية بزوايا تعبِّر عن قدرة احترافية خاصة، وحساسية ذوقية عالية! وكم كان... وكم كان...!
وهو كما كان متقدمًا علينا في الأولى ها هو يتقدمنا إلى الآخرة الباقية. جمعنا الله به في دار الكرامة دار رحمته ورضوانه بعفوه وغفرانه، إنه هو الغفور الرحيم!
ألا كم نفتقدك يا أبا سعود، ولكن ليس لنا وليس أمامنا إلا أن نسلّم بقضاء الله وقدره، ونرضى بحُكمه وأمره! ولا نملك إلا أن نقول: الحمد لله رب العالمين على كل حال، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون!
واسمح لي أخي عبد العزيز أبا سعود - رحمك الله وجمعنا بك في مستقر رحمته في الفردوس الأعلى من الجنة بفضله ومنه وجوده وكرمه - اللهم آمين! اسمح لي - أخي الحبيب - بأن أهدي إليك، وإلى جميع محبيك - وهم كثر.. كثر! - بعض نبض الشعور بفقدك.. والإحساس العارم بالحنين إليك.. تحملها هذه الأبيات القليلة، التي هي بعض صدى لذكريات جميلة كانت، وأيام حلوة مضت، وفصول من العمر تصرمت.. كنت فيها حاضرًا متألقًا.. وأستميحك، وأستميح محبيك المعذرة، على تقصيرها وقصورها عن بلوغ الوفاء ببعض حقك.. أو بحق الفاجعة فيك!
(من صدى الذكريات)
هي الأيام تحدونا
فتدنينا وتقصينا
هي الأيام نبلوها
وقد تفنى وتفنينا
وما زالت بنا الأيّا
مُ نطويها فتطوينا
هي الدنيا وما فيها
وكم شانت بحالينا
ونمضي في نواحيها
على جهل بحادينا
صروف الدهر كم راعت
بما تُغري فتُبكينا
ضحوكٌ في سنا اللّقيا
عبوسٌ في ليالينا
ألا لا غروَ ما الدّنيا
سوى الأكدار تؤذينا
وكم صارت لها غِرّا
تُ ما دَوْما تُعَنّينا
غريرٌ من تولاها
جهولٌ في مآسينا
حياة بعدها موت
ولن تُبْقى لها دَيْنا
حياة ثم موت ثم
م بعدُ اللهُ يُحيينا
فُجِعْنَا بالفتى الغالي
بترحال يُخَلّينا
فُجَائِيّا دهانا الخطْ
بُ ما أقساكَ ناعينا
أبتْ دمعتي تبدو
وظلتْ في مآقِيْنَا
ألا يا دمعتي الحرّى
ألا باللهِ واسينا
ألا جودي بما يُرْضِي
يريحُ الروحَ يُسْلِينا
ألا يا الصاحبُ الغالي
عن الدنيا تُخلّينا
رحلتَ اليومَ كم نأسى
على حِيْنٍ تُوافينا
شجا قلبي بلوعاتٍ
وغَصَّ الحلقَ شاجينا
وشانت بعدك الدنيا
وأضحت ما تُهنّينا
زرعتَ الطيبَ في دُنيا
بأخلاقٍ أحاسينا
وبسماتٍ حكتْ طبْعَا
أبتْ زيفا أبتْ مَيْنَا
وكم صِرْنا بأحزانٍ
على فُقْدانِ غالينا
وكم هاجت بنا الذكرى
شجانا في أقاصينا
ولا يبقى سوى الذكرى
نُعزّيها تُعزّينا
وها إنّا وبالذكرى
نُرَوِّيها تُروِّينا
وزانت بك الذكرى
بحاليها تُسلينا
عسى نسلو! وهل نسلو؟
عسى ربي يُنجّينا!
أطبتَ الفعلَ في الأولى
فأحييتَ الصدى فينا
وهذا الجمْعُ يُذكيها
غدتْ فينا رياحينا
ولن ننسى فَتِيَّ الوقت
في عهدٍ مضى فينا
وكم رُحنا وكم جينا
وكم زانتْ أمانينا
وكم طابتْ لنا الأحلا
مُ تحدونا وتهدينا
ودُورُ العلمِ تُغرينا
وكم زانتْ وتُغْنينا
رياضُ المعهدِ العلمي
رعتْ عهْدا بنادينا
وكم صالتْ بنا الجولا
تُ نُجْرِيْها تُجارينا
وكُنْتَ الأولَ السَّبا
قَ ترتيبا تُنادينا
يُباري بعضُنا بعضَا
وفي نادي ليالينا
وفي النادي تساجلنا
وفي وُدٍّ تناجينا
وفي صحب لنا كنّا
فريقين تبارَيْنا
كلانا مع جُويرٍ معْ
خُريصيٍّ تَسَلّيْنا
نُجيزَ الشعر إبداعا
نُمَشّيها تُمشّينا
وفي مصرٍ لنا جَمْعٌ
من الأصحابِ دَانِيْنَا
وكنتَ الصاحبَ الوافي
لِخِلّانٍ مُصَافينا
ودُورُ العلم تجمعنا
لها رُحْنا لها جينا
دروسٌ من مشايخها
وأعلامٌ تُغذينا
رعاكِ اللهُ أياما
فما أحلى حلاوينا
مضتْ ذكرى مع الأصحا
بٍ نرويها فتُحيينا
بها صِدْقٌ بها وُدّ
بها الأعلاقُ يا زينا
«سميرٌ» قد شدا لحنا
«سميرٌ» كم يُحيّيْنَا
شدوت الشعر مطبوعا
وخطَّطتَ الأفانينا
يراعٌ ظلَّ أفنانا
من الآيات تُثرينا
قوافيها تناجينا
وفيضُ الله يُرْوينا
وحسنُ الخطّ أشجانا
وفنُّ الخطِّ يُذْكِيْنا
وكنتَ العالِمَ الباني
وأستاذا بنادينا
منحتَ العلمَ طلابا
وأتقنتَ الأداْ فينا
جزاك اللهُ من داع
إلى المُثْلى بوادينا
جزاك اللهُ بالحسنى
كما أحسنتَ آمينا
وأفنانٌ من الآدا
بِ آلاءٌ تُعزّينا
وأخلاقٌ بما زانت
أثارت لوعةً فينا
سجايا كنت تُوليها
جميلَ الفعل تَحْسِينا
رسمتَ الصورةَ المُثْلَى
لِشِيْمَاتٍ تُوافينا
ألا يا اللهُ يا المولى
تقصّدناك داعينا
تُوَالي من ثوى رمْسَا
بِسُقْيَا اللهِ آمينا
سقاك اللهُ من رَمْسٍ
حوى في لحده زَيْنَا
شآبيبا من الغُفْرا
نِ في النّعمى تُلاقينا
وفي رَوْحٍ وريحانٍ
وفضلُ اللهِ يُغنينا
بفضل من عطا ربّي
جزيلِ المَنْحِ يُعطينا
ونرجو اللهَ غفرانا
ونرجو اللهَ يَهْدينا
رضينا ما قضى المولى
وحُكْمًا قد مضى فينا
رحمك الله أخي أبا سعود!
كم نحس بفاجعتنا فيك، وكم نحس بمدى شوقنا إليك.. وافتقادنا لشخصك العزيز! اللهم -ربنا- عوضنا عن فقده بأن تحسن عزاءنا فيه، وأن تجمعنا به في مستقر رحمتك، بفضلك العظيم، ومنِّك الجزيل، وبعفوك ومغفرتك ورضوانك، يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين! إنك نعم المولى القدير، ونعم الكريم المجيب! والحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.