د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
أمامنا اليوم فرص سانحة لسماع الرأي الراشد؛ والمقاييس الصادقة عادة ما تتيح العودة إلى الصواب؛ ولأن القيادة عنوان بارز في سيرورة الأعمال؛ بل وتطورها وتقدمها؛كما أنها ليست تجارب مؤطرة بزمن دون آخر!
فما زالت القيادات التنفيذية تتربع على خريطة النقاشات اليوم وعادة ما يقترن ذلك بالقدرة على تحقيق أهداف المؤسسة؛ فنحن أمام نمطين؛ إما قائد مغرم بالأغلفة والعناوين؛ فعندما يفقد القدرة على الغوص للأعماق فإنه يلقي لوم الفشل على أدوات الصيد، أو قائد أعمى يتحسس النتؤات حينما يفقد الحجة فلا يناقش الأفكار بل يهاجم أصحابها، وأشد ما يقضّ مضجع ذلك القائد الأفكار الجديدة، فيسعى لحرمان المرؤوسين من المعرفة، وخصوصًا ذوي الإنجاز منهم، كما ينظر لهم بعين الريبة فينشر الخوف من سطوته بين المرؤوسين؛ وبذلك يشتت طاقاتهم ويصرفهم عن تحسين الواقع؛ وهناك حتمًا صفوف من المستشارين يشبهون ظل المسؤول، وتفعيل وظيفة المستشار تتطلب فك الارتباط بينهما فالصيغة الحالية غير مجزية!
وحتى نكون منصفين في حديثنا عن القيادات لا بد أولاً من مراعاة الفوارق بين العقول التي تحتل مساحة من تلك رؤوسهم، كما أن من المقاييس الحاكمة لذلك قدرة القائد على اختيار الحيّز الذي سوف يشغله ويقوده؛ ففاقد الشيء لا يعطيه؛ فذاك في حد ذاته جدول آخر لحفز المنابع، وإثراء المصبات؛ ومما تترتب عليه سلامة السير على خريطة القيادة أيضًا التخصص المعرفي في القنوات الفرعية للمؤسسة لأن المعرفة حينئذ هي المفتاح لاستقبال أفكار المرؤوسين ودعمها ثم فرضها؛ وعندما يتمكن القائد من المعرفة تتحقق القدرة على التحول في المؤسسة، وترسية قواعد العمل المؤسسي حيث إن التحول يتم من خلال الإستراتيجيات وليس من خلال إطلاق القرارات الإدارية، ولا بد من الإيمان بأن إصلاح قلب المؤسسة أولى من علاج أطرافها لأن خواء القلب مميت، ولأن الحصاد مرجعه إلى العمل وليس إلى الحقل وكثير من القادة يتحركون ومناطيدهم محلقة في عالم النظريات وغالبًا هذا النمط تحتدم عنده الخطوط الحمراء وتصبح جبالاً ووديانًا؛ ويتعسكرالوعي أيضًا، ويأبى الإطلالة على أي نافذة للتغيير استجابة من أولئك القادة للقوانين التي يلتقطونها خارج إطار مؤسساتهم؛ وأدلف إلى موقع آخر على خريطة القيادة وهي دوائر المرؤوسين وواقعهم مع ذلك النمط فالقائد في مؤسسته له مهام أخرى قد يتخيلها عقله، ويرسم معالمها فتكون خريطته التي لا يحيد عنها، فهناك السطوة، وهناك الاستئثار بالمنافع، وهناك تدجين البشر ويا له من طوق مؤلم.
وقد قال علماء مبرزون في علم الإدارة قبل طرحي المتواضع «أن أصحاب الكفاءة المتواضعة من قادة المؤسسات يستقطبون للعمل معهم من هم أقل منهم مهارة كيما يظهروا بمظهر حسن ولا ينكشف جهلهم «وأحسب أن ذوي الفكر والمهارة الذين يكثرون من رصد الثقوب في المؤسسة هم الأنفع على المدى البعيد للمؤسسة وللقادة أنفسهم..
ولذلك فإن أفق قادة المؤسسات أفق يغوي بالتوغل إلا من رحم ربي؛ ورفع مستوى خطاب المسؤولية دائمًا ما تقابله رياح محذرة بحكايات تساقطت من هنا وهناك؛ حتى أصبحت في بعض المؤسسات -ولن أعمم- شجرة عجفاء لا يستظل بها أحد، وإن سلمنا بحتمية التدوير والتغيير إيمانًا بأن توجيه خطأ القرار له نتيجة أفضل من صوابه لأنه يأتي بعد تجريب وتجربة. وكما يُقال التجربة خير برهان، إلا أن الوهم أصبح يتلبّس الضعفاء من القادة لأنهم استمرأوا الكراسي!!
والله سبحانه وتعالى انطلق في تحديد معايير القيادة بالقوة ثم الأمانة قال تعالى {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت الْقَوِيُّ الأمين} سورة القصص «26»، إلا أن الوهم وهو من وجهة نظري المتواضعة من أشد مثبطات العمل المؤسسي، حيث يعاني أصحابه من أوهام التفوق والقوة ويقيّمون قدراتهم وفق حساب المدة التي اتكأوا فيها على تلك الكراسي، وإن كانوا لم يحركوا ساكنًا، فإنه أيضًا لم يحركهم ساكن، وهذا من أقوى مؤشراتهم على التمرحل الوهمي!!
وأختم فلسفتي في القيادة بأن في خريطة القيادة الحقيقية ومعاييرها العميقة إشارات متفوقة وعلامات تجعل الدروب أكثر ثراء وخصوبة، وتمهد للخطوات الناجحة في البناء المؤسسي بإصرار واستبسال، فلا بد من القضاء على الوهم الذي يلازم ضعاف القادة في بعض المؤسسات والممارسات اللا مسؤولة لتنكشف الحقيقة، وإلا ستظل المؤسسات مشغولة بسطح القشرة فقط التي ترسم مصطلح القائد وتكتب فيه النظريات والأطروحات دون أن يكون عنده أدنى معرفة علمية بمسؤولياته فيكون مستكشفًا في مجمل أوقاته في حين أنه كان يجب أن يكون عالمًا معرفيًا تامًا بمحيطه حتى تكون قراراته صوابًا ومستخلصة من بناء معرفي تراكمي متين فقوة الفكر تجعل التغيير من الأمور المعتادة التي تصنع تحولاً جذريًا يمكن أن يحمل معه قوة أكبر للمراجعة وتغيير المفاهيم السائدة..
يقول المتنبي:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغرُ في عين العظيم العظائمُ