د عبدالله بن أحمد الفيفي
يُورِد (الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمَّد، -503هـ= 1109م)، في كتابه «محاضرات الأدباء ومحاورات الشُّعراء والبلغاء»(1)، عن فائدة موت البنت وتمنِّيه، ما زعمَهما حديثَين نبويَّين، يقول الأوَّل: «نِعْمَ الخَتَنُ القَبْر!»- والخَتَن: الزَّوْج- ويقول الآخَر: «دَفْنُ البَنات من المَكْرُمات!» وهذا (الراغب)، طبعًا، هو صاحب «المفردات في غريب القرآن»، وما أدراك ما هُوَه! ما يمنحه الموثوقيَّة والإجلال لدَى العوام. ويبدو أن صاحبنا مُغْرَمٌ بـ»الغريب» في كلِّ شيء، وإنْ كان مكذوبًا! فيا للعجب ممَّا تَجِد كُتبَ التراث قد حُشِيت به من الغرائب والأباطيل، مع تمجيدها لدَى عامَّة الناس، ورفع أصحابها إلى درجاتٍ من التنزيه، بل ربما من التقديس!
وكان قبله (الثعالبي، أبو منصور، -429هـ= 1038م) قد عَدَّ هذين النصَّين، في كتابه «التمثيل والمحاضرة»(2)، من جوامع الكَلِم، وذلك في باب حُسن الاستعارات!
ولقد نبَّه بعض العلماء المعاصرين على أن هذين النصَّين من موضوعات الأحاديث، المختلقة على رسول الله.(3) غير أن اللافت هنا ذلك الاحتفاء «العُذْريُّ» الواسع بمثل هذه النصوص، قديمًا وحديثًا، مع التماس النعوت البلاغيَّة لإضفائها عليها. ما يدلُّ على أن الأفكار الجاهليَّة قد ظلَّت معشعشةً في الرؤوس، وما زالت، وإنْ لُبِّست بأزياء شتَّى. بل الأغرب من ذلك إلصاق مثل هذين النصَّين بالحديث النبوي! فما الدافع إلى ذلك كلِّه؟! ليس سِوَى مشروعٍ قديمٍ لأَسْلَمَة الجاهليَّة، وإنْ بهذه الصورة الفَجَّة المفتضحة! نعم، لو قيل إن النصَّين من أحاديث (أبي جهل)، لانطلَى ذلك على الناس، من دون حاجةٍ إلى عِلْمٍ بصحيح الحديث وموضوعه ومكذوبه. مع أنَّ أبا جهل نفسه لم يُشهَر بوأد البنات! ما يعني أن الإشكال ليس في العِلم بالحديث أو الجهل به، ولا في تقدير القيمة البلاغيَّة الكامنة خلف النصوص، حتى إنَّ الثعالبيَّ لم يَجِد مثيلًا ولا بديلًا، بل العِلَّة- قبل كلِّ شيء وبعده- في ثقافةٍ فاسدةٍ مفسِدةٍ مستحكمة، تُعجَب بالمضمون، فتُروِّج للنصَّ، نحلًا، وتحسينًا؛ حتى ليَصِحُّ في أصحابها قول (يزيد بن الطثرية):
أَتاني هَواها قَبلَ أَنْ أَعرِفَ الهَوَى ... فَصادَفَ قَلبًا خالِيًا فَتَمَكَّنا
على أنه ليس قلبًا خاليًا هاهنا، إلَّا من الحقِّ والخير والجَمال.
المفارقة أنَّ (الراغب) قد أعقب ما ذكرَ آنفًا، وعلى الصفحة نفسها، بكلامٍ ينقض ما سبق، كان خليقًا أن ينبِّهه إلى خَطَل ما روَى، لو أنه كان يعقل ما يكتب، لا يعاني الكَمَهَ الثقافيَّ، أو لم يكن كمعظم هؤلاء المؤلِّفين من القدماء (حاطب روايات). وهو قوله تحت عنوان «وأد البنات»:
«كانت العرب تَئِد البنات، إلى أن جاء النبيُّ، صلى الله عليه وسلَّم، فنهَى عن ذلك، وأنزل الله تعالى: «وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ؟» ودخل قيس بن عاصم على النبيِّ، صلى الله عليه وسلَّم، فقال: إنِّي وأدتُ اثنتي عشرة بنتًا، فما أصنع؟ فقال: أعتق عن كلِّ موءودةٍ نسمة. فقال له أبو بكر، رضي الله عنه: فما الذي حملك على ذلك وأنت أكثر العرب مالًا؟ قال: مخافة أن ينكحهن مثلك! فتبسَّم رسول الله، صلى الله عليه وسلَّم، وقال: هذا سيِّد أهل الوبر [كذا!]. وقال قيس: ما وُلِدَت لي ابنةٌ إلَّا وأدتُها سِوَى بُنَيَّةٍ ولدتْها أُمُّها وأنا في سفر، فلمَّا عُدتُ ذكرتْ أنها وَلدتْ ابنةً ميتة، فأودعتْها أخوالها حتى كبرتْ، فأدخلتْها منزلي متزيِّنةً فاستحسنتُها، فقلتُ: من هذه؟ فقالت: هذه ابنتك، وهي التي أخبرتك أنَّني ولدتُها ميتة، فأخذتُها ودفنتُها حَيَّة، وهي تصيح، وتقول: أتتركني هكذا؟! فلم أعرِّج عليها! فقال، صلى الله عليه وسلم: مَن لا يَرْحَم لا يُرْحَم!»
وإذا كان الوأد قد انتهى في الممارسة بمنع الإسلام إيَّاه، فلقد استمرت فكرةُ الوأد في نفوس بعض العرب بعد الإسلام. يفضح ذلك، على نحوٍ مباشر، ما يسوقه (الماوردي)(4) من أن (عقيل بن علّفة، -100هـ= 718م)، لمَّا خُطِبتْ إليه ابنته الجرباء، ارتجز:
إنِّي وإنْ سِيقَ إليَّ المَهْـرُ
ألفٌ وعِـبدانٌ وذَوْدٌ عَـشْرُ
(أحـَبُّ أصهـارٍ إِلَيَّ القَبْرُ!)
كما أورد قول (عبدالله بن طاهر، -230هـ= 844م):
لكُلِّ أَبٍ بِنْتٌ يُراعي شُـؤونَها ... ثلاثةُ أصهارٍ إذا حُـمِدَ الصِّهْـرُ
فَبَعْلٌ يُراعيها، وخِدْرٌ يُكِـنُّها، ... وقَبْرٌ يُواريها، (وأفضلُها القَبْرُ!)
إلى غير هذه من النصوص الداعية إلى وأد البنات صراحةً، لدَى (الفرزدق)، و(البحتري)، و(أبي العلاء المعري).(5) لكنَّنا لا نقرأ تراثنا، أو نقرأه ولا نفهمه، أو نقرأه ونفهمه ونعشقه بغثِّه وسمينه؛ لأننا لا نميز الخبيث منه من الطيِّب، أو لأننا- بالأحرى- ما برحنا بعقليَّات منتجية، وإنْ تظاهرنا بخلاف ذلك. وقديمًا فَهِمَ الشَّعبُ مِثْلَ هذه الحالة ببساطة، فقال: «اللِّي فينا فينا، مهما رُحنا ومهما جينا!»
** ** **
(1) انظر: الراغب الأصفهاني، (د.ت)، محاضرات الأدباء ومحاورات الشُّعراء والبلغاء، (بيروت: دار مكتبة الحياة)، 1: 326.
(2) بتحقيق: عبد الفتاح محمَّد الحلو (القاهرة: الدار العربيَّة للكتاب، 1983)، 24.
(3) انظر مثلًا: أبو شقة، عبد الحليم، (1999)، تحرير المرأة في عصر الرسالة، (الكويت/ القاهرة: دار القلم)، 1: 13.
(4) (1984)، أدب الدُّنيا والدِّين، شرح وتعليق: كريم راجح (بيروت: دار اقرأ)، 175.
(5) انظر كتابي: (2006)، نَقْدُ القِيَم: مقارباتٌ تخطيطيَّـةٌ لمنهاجٍ عِلْمِيٍّ جديد، (بيروت: مؤسَّسة الانتشار العَرَبي)، 93- 96.
(العضو السابق بمجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود)
p.alfaify@gmail.com
https://twitter.com/Prof_Dr_Alfaify
http://www.facebook.com/p.alfaify