أ.د.محمد بن حسن الزير
منذ أن أهبط الله آدم وزوجه من الجنة إلى موطنهما الدنيوي الأرض، بعد ذلك الخطأ الذي تعلم منه آدم وزوجه (درس الخطأ والتوبة) صارت الأرض الموطن الجديد للإنسان ومسرح حياته وأفعاله ومنجزاته، ونشأت بينهما علاقة حميمية عميقة تفاعلية وموضوعية بلا حدود، وهي علاقة، بين الإنسان والمكان تواصل تجذرها وتعمقها بينهما، بشكل أبدي طيلة وجودهما؛ سواء في الواقع أو في الذاكرة، والذاكرة جزء مهم من واقع الإنسان وحياته، علاقة تبدأ من الفعل والتحقق، وتستمر باستثمار التجربة الفعلية الناجحة، في مواصلة الفعل والتحقق، وتتواصل مع الإنسان، عبر مراحل حياته، بالتذكر الدائم للتجربة ونجاحاتها، والعظة والاعتبار والتبصر في إخفاقاتها وسلبياتها!
وفي إطار هذه الحقيقة الوجودية، يأتي الاهتمام بالتاريخ بعامة، وبالتاريخ الوطني بخاصة، ومن هنا أيضاً ندرك الأبعاد العميقة لدعوة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- خلال رئاسته لمجلس إدارة (دارة الملك عبد العزيز) يوم الأربعاء 30/3/ 1441هـ الموافق 27-11-2019م، حين وجه بالتأكيد على «الاهتمام بالتاريخ الوطني مثمناً تطوير الدارة مقررات الدراسات الاجتماعية في التعليم العام، ومقرر التاريخ الوطني للجامعات بالتعاون مع وزارة التعليم التي تقدم تراث الوطن وتاريخه بأسلوب تربوي متميز... كما وافق المجلس على تنفيذ مبادرة تطوير الدراسات التاريخية الوطنية تحت إشراف صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز التي تهدف إلى تطوير (جوانب) المدرسة التاريخية السعودية لتكون رائدة ومؤثّرة بما في ذلك تطوير المنهجية والبرامج العلمية والأكاديمية والارتقاء بمستوى أنشطة الجمعية التاريخية السعودية وبرامجها للرفع من فاعليتها في الحركة العلمية»(واس - الجزيرة، العدد 17227، الخميس 1/4/1441هـ ص 5).
وحين نهتم بتاريخنا الوطني في المملكة العربية السعودية، في أسسه المبدئية ومنطلقاته المركزية، وفي بدايته الزمنية؛ فلا بد أن تحضر (الدرعية) الركيزة والرمز لذلك التاريخ الحافل المجيد، ولا بد أن تكون هي الجديرة (أولا) بالوقوف إزاءها بالدراسة والتأمل العميق لأهمية (أثرها بعيد المدى في تاريخ الدولة والإنسان والمجتمع في هذا الوطن الكبير، وأن تكون هي المفتاح لقراءة التاريخ وإدراك أبعاده ومعانيه، وأن تكون هي السطر الأول في الكتابة والقراءة والحديث؛ من حيث هي قاعدة حكم الأسرة السعودية الكريمة، حين (تحوّل إلى دولة) بزعامة الإمام محمد بن سعود بعد مناصرته للدعوة الدينية الإصلاحية التي أظهرها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في ذلك الحين، في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد وتوقع المخاطر!
وتبدأ كتابة هذه القراءة، في هذه الأيام، في ظل اهتمام كبير مستحق بالدرعية اليوم؛ هذا المكان التاريخي العريق المفعم بالعبق التاريخي الباذخ المجيد، والحافل بالبطولات العظيمة، وبالتضحيات الجسام التي تبعث على الانتشاء والفخر والاعتزاز بكل ما كان له من رمزية تاريخية فخمة ودلالة معنوية عميقة!
ويتناغم هذا الاهتمام بتاريخنا الوطني في أجواء (موسم الدرعية) الحافل الذي يعيشه الوطن والمواطن هذه الأيام على عرصات الدرعية التاريخية وفي ربوعها ورباها، التي تشهد حضوراً فاعلاً متفاعلاً بين الإنسان والمكان من خلال الحشد الكبير، الذي يملأ المكان ويشغل الزمان في أجواء نكهة الشتاء ونشوة المطر، وإيحاءات التاريخ وعبق الماضي، وما يشهده المكان من اكتظاظ حيوي بالمشاريع الكبرى وفي طليعتها مشروع (بوابة الدرعية) التي (وضع حجر أساسها) خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، ذلك الحجر الذي أعد من أحجار الدرعية وحفر عليه عبارة: «الدرعية جوهرة المملكة» قدمه سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان لمقام الملك الذي وضعه في مكانه المخصص إيذانا ببدء العمل في المشروع، إلى جانب ما تحقق للدرعية من مشاريع؛ من مثل الميادين الحضارية المتعددة، والقرية التاريخية، وحي الطريف التاريخي الذي أصبح عام 2010 ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة؛ (اليونسكو)، وكذلك المتاحف العديدة، والفنادق الحديثة، والمطاعم المتنوعة، والمراكز الثقافية، والأكاديمية التي تعنى بالتراث والفنون والإعلام والرياضية والترفيهية، ومناطق للفنون والتسوق، وعجلة الدرعية التي تضيء سماء المدينة، وشهدت واحة الدرعية وتشهد أنشطة ثقافية ورياضية عالمية متعددة؛ من مثل سباق الفورمولا، على حلبة الدرعية، ومهرجان الدرعية للفروسية، ونزال الدرعية للملاكمة، وبطولة كأس الدرعية للتنس، التي شارك فيها ثمانية لاعبين عالميين، وقد استقطب موسم الدرعية الكثير جداً من السياح الأجانب الراغبين في المعرفة والتعارف!
والدرعية في الماضي هي تلك البلدة الوادعة على ضفاف نهر وادي حنيفة التاريخي؛ بما يتحمله في ذاكرته مما مر به، عبر السنين المتطاولة، من أحداث وأجيال وقرون، وقد منحها هذا الاسم أهلها الدروع الحنفيون الذين قدموا إليها وافدين إلى هذا الوادي بناء على دعوة أقاربهم من أبناء عمهم الحنفيين الذين كانوا يسكنون فيه برئاسة ابن درع « وكان رئيس الوافدين « مانع المريدي» جد الأسرة السعودية، وهو الجد الثالث عشر للملك عبد العزيز، وكانت هذه الوفادة فيما يقدر المؤرخون سنة (850هـ) فأقطعه ابن عمه ابن درع منطقة (المُليبد) و(غصيبة وما بينهما..» ابن خميس؛ معجم اليمامة 1-416-417.
ولئن كان عام 850هـ الموافق 1446م قد شهد ميلاد إمارة أجداد السعوديين فإن (الدولة السعودية) قد بدأ تاريخها الحقيقي العظيم في (الدرعية) عام 1157هـ الموافق 1744م حين اتفق الإمامان المحمدان على نصرة الدين الحنيف، وإحياء أثره في نفوس الناس على أساس من العقيدة السليمة والعلم الصحيح؛ ومن هنا كانت الدرعية جوهرة المملكة العربية السعودية؛ وفي المقالات التالية بإذن الله تعالى ستكون قراءتنا لذلك التاريخ ورمزيته ودلالاته!