د.عبد العزيز الصقعبي
«أنا ابن الهامش» هو يقول ذلك. دائماً يصف نفسه بأنه محبط، بل أحياناً يصف بأنه فاشل، لم يعرف مطلقاً طعم الانتصار، منذ صغره وهو يكابد الحياة، نشأ في أسرة بسيطة، بل هي أقرب للفقر. تعلم، توقف عند المرحلة الثانوية؛ ليكون موظفاً بسيطاً في دائرة حكومية تقليدية.
لا فرق بينه وبين الملفات التي تحيط به من كل جانب. موظف أرشيف، حتى أنه يشجع فريق كرة قدم يشبهه، دائماً يُمنى بالخسائر. علاقته بالرياضة لم تتجاوز التشجيع عن بعد، أما هو فبعيد جداً عن الرياضة؛ فبدلا من نمو العضلات نمتْ له كرش تسبقه دائماً، ومع ذلك يرى أنها عنوان للوجاهة، ويؤكد أن أغلب التجار ورجال الأعمال لهم «كروش» مثله. هو مقتنع بأن مستقبله لن يكون أفضل من ماضيه، بل إنه منذ صغره ألغى من قاموسه الحياتي كلمة الطموح؛ فقدره أن يكون في مدينة كبيرة، مثل الرياض، يعيش في بيت شعبي صغير، ورثه من أبيه. وحقيقة هذا أمر جيد؛ فمسألة توفير السكن مهمة، والجميع يعاني من عدم توافُر السكن؛ وبالطبع هؤلاء يعانون من الإيجارات المرتفعة، والتنقلات الدائمة.
هو يعيش في بيت شعبي، في حي شعبي، غادره سكانه الأصليون؛ ليقطنه وافدون، ويبقى صامداً مع بعض أناس يشبهونه كثيراً.
إذًا لو نظرنا لوضعه فهو ليس تماماً «ابن الهامش»؛ ليس تعيساً؛ هو يملك بيتاً، وموظف في دائرة حكومية. نسينا أنه متزوج، ولديه ثلاثة أولاد، وخمس بنات. ليس لديه إخوة، والداه توفيا منذ سنوات، ولديه أقارب، لا يتواصل معهم بصورة جيدة منذ سنوات؛ وهذا يعني أنه لن يكون ملزماً بالتزامات عائلية، باستثناء ما تحتاج إليه أسرته من بعض الاحتياجات الضرورية، وهذا يغطيها إلى حدّ ما الراتب الذي يودع في حسابه البنكي نهاية كل شهر. بالطبع حسابه البنكي هذا مثل مؤشر الوقود في السيارات، يمتلئ بداية كل شهر، ثم يبدأ بالانخفاض؛ ليصل إلى الخط الأحمر نهاية كل شهر قبل إيداع الراتب الجديد. لا ننسى أن زوجته تساعده من حلال بيعها خلطات التوابل التي برعت في صنعها، وإن كان نشاطها التجاري لم يتجاوز الحي الذي يقطنونه، ولكن ابنتها الكبرى بدأت بترويج خلطات التوابل تلك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وربما تنتشر، وتحقق مكاسب مستقبلاً.
الجميع في بيته عداه يحلم بمغادرة ذلك المنزل الشعبي الفقير في ذلك الحي الشعبي التعيس إلى أحد الأحياء الراقية. هو يرى أن حيهم فيه حياة لا تتوافر في الأحياء الجديدة، حيث كتل الأسمنت والأبواب المغلقة، بل يرى أن بعض القاطنين في تلك الأحياء الجديدة يدخل بيته بواسطة سيارته عبر الباب الأتوماتيكي؛ لذا لا علاقة له بباب بيته أو الشارع الذي يقع بيته عليه. لديه فلسفة خاصة، قد تكون منطقية بعلاقة القاطن في البيت بما حوله؛ لذا يجد أن المتعة أن يخرج من بيته وقتما يشاء، يغلق الباب أو يفتحه بمفتاح، يمشي، ويرفع يده تحية لأحد العابرين بالشارع، يرى بالقرب منه دكاكين عدة، يعرف أصحابها، وهم يعرفونه، سيارته يركنها في مكان قريب من بيته، وليس داخل بيته، وكل يوم أو أي وقت يشاء عندما يغادر بيته يسمع أصوات الناس، جدلهم، أبواق السيارات، صراخ الصبية، يشم روائح مختلفة، يرى رجالاً ونساء، كبارًا وصغارًا، يرى حيوانات، قططًا غالباً، وسيارات، حواسه الخمس حاضرة تماماً في حيه، على عكس الأحياء الجديدة التي لا يسمع فيها غير هدير محرك السيارة أو صوت راديو أو مسجل السيارة، وصمت مطبق؛ لذا فهو يصر على بقائه في بيته البسيط، مع إحساسه بالفشل والإحباط، لكن لا يشعر بالتعاسة.
ليكن على الهامش، هو «عائش»، وهذا يكفي، لا يريد أكثر من ذلك.
[«ابن الهامش» هذه شخصية هربت من رواية أكتبها، توقفت عن كتابة الرواية.. لأبحث عنها، وعندما أجدها سوف أتفاهم معها؛ لتعود وتثري العمل الروائي الذي ربما أواصل كتابته فيما بعد].