محمد عبد الرزاق القشعمي
عندما قرأت كتاب حسين مروة (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية) مؤخراً، والذي أرجأت قراءته لسنوات طويلة لكبر حجمه ولصعوبة أسلوبه، ط5، 1985، ج1 (1024) صفحة، والجزء الثاني (775) صفحة، الجميع = 1799 صفحة.
وجدته كثيراً ما يستشهد بموسوعة أحمد أمين الإسلامية (فجر وضحى وظهر الإسلام) ويحيل إليها القارئ، وقد شدني ما تناوله من استعراض لنشأة العلوم العربية، ومدرسة الرأي ومدرسة الحديث، والصراع بين مراكز الحركة الفكرية، وتحديداً في مكة المكرمة والمدينة المنورة حين ازدهرت فيهما علوم الفقه والحديث والتاريخ، والبصرة والكوفة بالعراق ودمشق والفسطاط.
وقال -مروة- إن التنافس بين مدرستي الكوفة والبصرة كان أحد عوامل الازدهار الفكري في كل منهما، ثم نشأ من هذا التنافس انقسام المدارس الفكرية بين مدرسة بصرية ومدرسة كوفية بحيث تميزت كل واحدة منهما بطابع خاص في طريقة التفكير بمسائل الفقه والنحو والأدب، ثم في المسائل الكلامية فيما بعد.
أما دمشق بعد أن أصبحت مركزاً للخلافة الأموية، وصارت مقصداً للعلماء والأدباء، ونشطت فيها مناقشات جادة في بعض المسائل التي كان يثيرها الاحتكاك هناك بين الإسلام والمسيحية.. وقد كان اتجاه دمشق، في ذلك، هو اتجاه السلطة الأموية نفسه، أي تأييد القول بسلب الإنسان حرية الاختيار في أفعاله.
أما مدينة الفسطاط -القاهرة- فقد ظلت منذ فتح مصر سنة 20هـ 640م في خلافة عمر بن الخطاب حتى آخر عهد الدولة الأموية، مركزاً علمياً تغلب عليه العلوم الدينية الصرف، ولاسيما الحديث والفقه.
وحول ظروف نشأة (النظر العقلي) بحدودها الواقعية التي ترجع، أساساً، إلى الخلاف الأول حول مسألة الخلافة، وإلى تطور هذا الخلاف حتى تنشأ منه المذاهب، السياسية بمضمونها والدينية بشكلها، وحتى ينتج بين هذه المذاهب قاعدة فكرية ينطلق منها النظر العقلي، أو ما سميناه بالتفكير الفلسفي.
أما أحمد أمين فقد أرجع منشأ تلك البحوث التي اتخذت طابعها النظري العقلي الذي تركز بعد ذلك في (علم الكلام) إلى مصدره السياسي الأول في الحياة العربية الإسلامية الواقعية، دون أن يهمل العوامل الخارجية في تطوير تلك البحوث إلى ما بلغته في العصر العباسي من ارتكاز على قواعد فكرية نظرية. ص550، ج1- النزعات المادية.
هذا مما شجعني على تذكر (موسوعة أحمد أمين الإسلامية) والتي تقبع منذ سنوات في مكتبتي المتواضعة وقد استصعبت قراءتها لكونها من ستة مجلدات وبـ(2730) صفحة. ولكن حسين مروة دفعني لها فبدأت من ضحى الإسلام ثم ظهر الإسلام واختتمها بـ(فجر الإسلام) وكان من المفترض أن أبدأ به، ولكن اعتقدت أنني لن أطيل النظر في الأول.. وهكذا أمضيت في هذا العمل الموسوعي المبهر أكثر من شهرين، فكلما أردت أن أنصرف لغيره شدني للمزيد من التهام البقية.
لنعد نلقي نظرة سريعة على هذا العمل الكبير والذي كنا غافلين عنه.. ولتكن البداية من تقديم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين للجزء الأول في طبعته الأولى ديسمبر سنة 1928. فعلى مساحة تسع صفحات بدأها بقوله: في «نفوس الناس الآن من الأدب العربي ودرسه صورة جديدة مخالفة لما كان في نفوسهم منذ سنين، ولكنها صورة غامضة على جدتها وطرافتها.. يطلبون من الأديب أن يكون مرآة صافية وضاءة أمينة لخير ما في عصره إن كان أديباً منشئاً، وأن يكون مرآة صافية وضاءة أمينة للأدب الذي يريد درسه إن كان أديباً واصفاً.. والناس لا يريدون الآن أن يقنعوا بهذه الصور يحفظونها ويستظهرونها.. وإنما يريدون أن يتعرفوا ما وراء هذه الصور ويتعمقوا حقائقها.. وقد أحس أساتذة الأدب أنفسهم نفور الناس من أدبهم، وانصرافهم عنه منذ أول هذا القرن، فجدوا في أن يلائموا بين أدبهم وبين عقول الناس.. فنشأ في مصر ما سموه تاريخ الأدب.. وأرخ الأدب العربي على نحو ما يؤرخ الأدب الأجنبي، فقسم إلى عصور، وترجم في كل عصر لطائفة من الكتاب والشعراء النابهين.. ومع ذلك فليس الأدب العربي أقل حياة من الآداب الأجنبية مهما تكن، وليس الأدب العربي أقل صلاحاً للبقاء واستحقاقاً للعناية الخصبة والدرس المنتج من الآداب الأجنبية مهما تكن، وكل عيب الأدب العربي أنه مجهول لا يحسنه أصحابه ولا يتعمقونه.. على هذا النحو من الاستعداد أقبل زملائي، وأقبلت على درس الأدب العربي في الجامعة حين كلفنا هذا الدرس منذ سنين.. وكنا مؤمنين بالأدب العربي، وكنا جادين في العناية به، وكنا مخلصين في هذه التجربة، لا نحفل بما نجد فيها من مشقة.. وكنا نجد من استعداد الطلاب وتفتح نفوسهم لهذا الأدب العربي ما يضاعف هذه اللذة ويشد من عزائمنا للمضي فيما نحن بسبيله.. ذلك أنا لا نبغي إلا الحق من حيث هو، والحق لم يوقف على فريق من الناس دون فريق، ولم يقصر على عصر من عصور التاريخ دون عصر.. وعلى هذا قسمنا بحثنا إلى ثلاثة أقسام: الأولى الحياة العقلية للأمة العربية في القرن الأول للهجرة، الثاني الحياة السياسية لهذه الأمة العربية في هذا القرن، الثالث حياتها الأدبية.
وكل قسم من هذه الأقسام معقد شديد التعقيد ملتو كثير الالتواء، فلم تكن الأمة العربية إبان القرن الأول للهجرة تحيا حياة عقلية يسيرة سهلة كما يظن الناس.. إنما أردنا أن نرضي ضمائرنا أولاً وحاجة الناس ثانياً، فأخذنا أنفسنا أو بعبارة أصح أخذ زميلنا الأستاذ أحمد أمين نفسه بأن يحلل هذه الحياة العقلية العربية تحليلاً ليس أقل دقة واستقصاء من تحليل صاحب الكيمياء في معمله.. ولأشهد بأن زميلي أحمد أمين قد نهض بهذا العبء من درس الحياة العقلية العربية كأحسن ما ينهض الرجل ذو الضمير العلمي الحي بعبء من الأعباء، نعم أريد أن أتحلل من هذه القيود فأشهد بأن زميلي أحمد أمين قد استطاع أن يكشف لنا ببحثه هذا عن رجل لم نكن نقدر أن نراه، فقد كنا نعرف له كفايته ومقدرته كعالم أديب، جد حتى تثقف بالثقافة الأجنبية الأوروبية.. ولست أخفي أني لم أكن أعرف حداً لهذا الدهش الذي كنت أجده حين أرى أحمد أمين يتصرف في المسائل الأدبية والفلسفية واللغوية بقدم ثابتة ويد صناع وعقل يعرف كيف يفكر، وكيف ينتقل من قضية إلى قضية، ومن مقدمة إلى نتيجة، وكيف يضع الأشياء بعد ذلك كله في نصابها معتدلاً أحسن اعتدال لا يعرف التقصير ولا يعرف الإسراف.. نعم أريد أن أتحلل من هذه القيود وأن أثني على أحمد أمين ومهما أفعل من ذلك فلن يكون ثنائي شيئاً إلى جانب هذا الأثر الذي سيتركه في نفوس الناس، بحثه الذي أقدمه إلى الجمهور سعيداً مغتبطاً بأنه أول ما يقع في أيدي الناس من كتاب (فجر الإسلام).
أخذ أحمد أمين نفسه بما رأيت من مناهج البحث في دروس الحياة للأمة العربية إبان القرن الأول للهجرة، فانتهى إلى نتيجتين كلتاهما قيمة حقاً: الأولى أنه أظهر هذه الحياة كما كانت معقدة ملتوية ولكنها قوية أشد قوة ممكنة، خصبة أشد خصب ممكن، بعيدة كل البعد عما كان يظن الناس من هذه السذاجة الغليظة الجافة. الثانية أنه وصل بين الثقافة الأدبية والثقافة الدينية والفلسفية وصلاً متيناً لن يتعرض منذ الآن لضعف أو وهن.. استطاع أحمد أمين أن يضع أيدينا على هذه الآثار القوية الخالدة التي تركها الدين والفلسفة والأدب ..... إلخ».
ثم أشار إلى ما اختص به زميلهم الثالث الأستاذ عبدالحميد العبادي في تناوله للحياة السياسية للعرب إبان القرن الأول، والتي لا تقل تعقيداً عن الحياة العقلية. وقال: «والحياة الأدبية هي الخلاصة الغنية، وهي الوقت نفسه المرآة لكل ما اضطربت به الأمة العربية في حياتها العقلية والسياسية.. ومهما يكن من شيء فنحن نقدم إلى القراء كتاب (فجر الإسلام) راجين أن لا يفرغوا من قراءة أحد أقسامه حتى يظهر لهم قسمه الثاني ثم قسمه الثالث، راجين بنوع خاص أن يكون ظهور هذا الكتاب مؤرخاً لعصر جديد، يدرس فيه الأدب العربي هذا الدرس المفصل الدقيق الحر.. وثلاثتنا متضامنون في الكتاب على اختلاف أقسامه، قد استقل أحمد أمين بدرس الحياة العقلية، ولكنه قرأه معنا وأقررناه كما أقره، فنحن شريكاه فيه على هذا النحو، واستقل عبدالحميد العبادي بدرس الحياة السياسية، ولكنه قرأه علينا وأقررناه كما أقره، فنحن شريكاه فيه على هذا النحو. واستقللت بدرس الحياة الأدبية ولكننا قرأناه جميعاً وأقررنا فنحن شركاء فيه على هذا النحو، وكل ما نتمناه الآن هو أن نوفق إلى أن ندرس (ضحى الإسلامي) بعد أن درسنا فجر الإسلام».
وظهر (ضحى الإسلام) في رمضان 1351هـ يناير 1933م بمجلدين وأربعة أجزاء وكتب مقدمته طه حسين بسبع صفحات سأكتفي بما يتسير منه: «... ولست أريد أن أخون صديقي أحمد أمين بالإسراف في الثناء عليه، ولا أن أخونه بالغض منه والتقصير في ذاته، وإنما أريد أن أنسى صداقته، وأهمل -ولو لحظة قصيرة- ما بيني وبينه من مودة كلها صفو وإخاء استطعنا أن نجعله فوق ما يتنافس الناس فيه من المنافع وأغراض الحياة، إنما أريد أن أنصفه، وأشهد لقد فكرت وقدرت، وجهدت نفسي في أن أجد شيئاً من العيب ذي الحظر أصف به هذا الكتاب الذي أقدمه إلى القراء فلم أجد، ولم أوفق من ذلك إلى قليل ولا كثير.. ولست أدري أيهما أهنئ بهذا الفوز أحمد أمين لأنه قد جد وألح ومضى في الجد والإلحاح، حتى انتهى إلى هذا التوفيق، أم الجامعة المصرية لأنها قد اهتدت إلى أحمد أمين ووكلت إليه ما وكلت من أنواع الدرس وفنون البحث؟..».. واختتم مقدمته بقوله: «أشهد لقد وفق أحمد أمين في هذا الكتاب إلى الإجادة العلمية والفنية معاً: استكشف الحياة العقلية الإسلامية استكشافاً لم يسبق إليه، ثم عرضها عرضاً هو أبعد شيء عن جفاء العلم وجفوته، وأدنى شيء إلى جمال الفن وعذوبته..».
وأخيراً جاء (ظهر الإسلام) بأربعة أجزاء بمجلدين في عام 1364هـ 1945م، معتذراً من القراء لتأخر ظهوره بسبب ما كلف به من عمادة كلية الآداب وغيرها. وعندما تركها احتاج إلى زمن يروض به عقله ونفسه على العودة إلى معانات البحث.. وقد سبق أن قال في مقدمة الجزء الثاني من (ظهر الإسلام) مكرراً اعتذاره «لضعف الصحة، وعدم القدرة على إثبات النصوص كما قرأناها أو سمعناها.. هذا مع نهي الأطباء لنا عن النظر في الكتب، ولكنا اعتدنا أن نعتمد في الحياة على القراءة والتأليف. وما قيمة الحياة من غير ذلك؟..».
ولكنه -رحمه الله- رحل عن دنيانا عام 1954 قبل أن يخرج الجزء الرابع من (ظهر الإسلام) إلى الوجود، فطلب أبناؤه من الدكتور أحمد فؤاد الأهواني للتقديم له وإخراجه، وهو من تلامذته بالجامعة عام 1927 وقال: «... أخذت عليه درساً في اللغة العربية، أذكر أنه كان في (المعاجم) وقد بهرتني في ذلك الحين طريقته في البحث والعرض، وبساطة الأسلوب، ونفاذ الفكر...».. وقال: إن الأصل لم يكن بخط أحمد أمين، فقد جرت عادته في أواخر حياته، بعد أن أصيب بضعف بصره، أن يملي...» وقال: «... وحين رجاني أبناء أحمد أمين القيام بنشر هذا الكتاب، ترددت أول الأمر لأن مهمة تعديل كتاب وإخراجه مهمة علمية شاقة، وأمانة تاريخية ثقيلة. وقد قبلت آخر الأمر هذا العمل...»؛ وخرج العمل بمقدمة ضافية من الأهواني بلغت 16 صفحة. وفيه قال: «... وأصبح الفجر والضحى والظهر مرجع كل طالب ومرشد كل باحث، والمنارة التي يهتدي بها الناظر في التاريخ الإسلامي وحضارته...».
لن أستعرض ما حواه هذا العمل الكبير.. ولن أذكر حتى العناوين الرئيسية لها.. كل هذا من أجل أن يبحث عنه الراغب في الاستزادة.. فيكفي ما قاله طه حسين عن مؤلفه.. وأعتبر نفسي محظوظاً حين قضيت معه شهرين من عمري أعتبرها هي الأفضل.