ثنائيات الحضور والغياب!!
تعد الثنائيات إحدى مظاهر الحياة لاسيما ما يتصل بالإنسان وتقلباته، وبنزعتي الخير والشر فيه، الثنائيات حاضرة في شتى مناحي الحياة؛ في الليل والنهار، الصباح والمساء، النور والظلام. وهي من الأفكار الفلسفية التي انتقلت للحقل الأدبي لما تحدثه من مفارقة وتبرزه من تناقض، ولما تحققه من اتساع مدى للتعبير عن الأشياء والمعاني من خلال مقاربة أو مقارنة أو مفارقة طرفين وربط ما بينهما من تفاعل أو تضاد أو صراع... وبين يدي رواية (المنفيون) للكاتبة الروائية السعودية ولاء أبوغندر تقوم على الثنائيات مفتتحًا ومختتمًا، وتدور أحداثها خلال الحقبة الستالينية عندما أمر بتهجير ونفي أبناء القوقاز إلى سيبيريا منتصف العقد الخامس من القرن العشرين (1944م) لتكون منفى وسجنا لهم! ويمكن رصد أبرز مظاهر قراءة الرواية في:
أولاً: الثنائيات حضورًا وغيابًا:
لأن عتبة العنوان تشكل إضاءة أولى بحسب جيرار جينيت، فمنطلق الثنائيات يبتدئ منه؛ إذ اختارت الكاتبة (المنفيون) عنوانًا معبِّرًا عن أحداث روايتها، وهو جمع مذكر سالم. وكمعادل موضوعي لهذا التذكير جعلت صورة الغلاف لامرأة شابة (أنثى) لتحقيق ثنائية التذكير والتأنيث. و(المنفيون) حضور يستدعي غائبًا (من قام بالنفي). ثم إن الكاتبة تضع عنوانًا فرعيًا صغيرًا تحت عنوان الرواية نصه (شتاء سيبيريا المجيد)، والشتاء دال على الزمان، وسيبيريا دالة على المكان، وبهما يتحقق حضور الزمان والمكان معًا كثنائيين يتكاملان لقيام العمل الروائي. وتأتي مفردة (المجيد) حضورًا يستدعي غائبًا (المشين أو المخزي)، فالمجد لا يعرف إلا بضده.. فبضدها تتمايز الأشياء، وبذلك نجد الغلاف يحيل إلى أكثر من شكل من الثنائيات (المذكر والمؤنث)، (المكان والزمان) والحاضر (المجيد) مع الغائب (المخزي)، وعند الانتقال لصفحة الإهداء تبرز أكثر من ثنائية (إلى الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ماضيًا وحاضرًا و.... كل الأرض منفى وعند الله الوطن)، فالأولى ثنائية (الماضي والحاضر) والثانية هي النقاط الأربعة المحذوفة، وعادة ما توضع ثلاث نقاط في علامات الترقيم للدلالة على المحذوف.ولكن لأن الثنائية مزاوجة؛ فالنقاط الأربعة تشكل زوجين. في حين جاءت الثنائية الثالثة في (المنفى والوطن) و(الأرض والسماء) وعبارة الإهداء ذات حمولات دلالية عميقة ومتسعة تمتد لتستعيد تاريخ الإنسان على الأرض منذ عهد أبينا آدم. وفي مفتتح الفصل الأول وضعت الكاتبة الروائية عبارة - وهذا منهج عملها في كل الفصول - (يعرف الخنجر الجبلي أنشودتين فقط: واحدة عن الموت والأخرى عن الحرية. مثل شركسي)، والثنائية تتجلى في (الأنشودتين) وفي (الموت والحياة)، وفي حضور (الحرية) التي تستدعي غائبًا (الحياة)، إذ لا حرية بلا حياة ولا حياة بلا حرية! وعندما ندلف إلى الرواية نجد أن بطلي الرواية من المنفيين هما (رسلان وزلمخان) وهما مذكران، و(صوفيا وتايتانا) وهما مؤنثتان. فيما شكل كل من (إيفان ويوري) البعد الإنساني الإيجابي للشخصية الروسية، وشكل (أنجوشا وفردنشكو) البعد الإنساني السلبي الحاقد، وكان لأنجوشا دلالة الحضور ولفرد نشكو دلالة الغياب، وحضر ستالين وماكسيموف) رمزًا للتسلط والبطش، مع افتراق في الحضور، فستالين غاب جسدًا وحضر رمزًا فحسب، وماكسيموف حضر جسدًا منفذًا! وجاءت الثنائية اللغوية للمنفيين (اأنغوشية والشيشانية)، وظهرت الثنائية في أحداث الرواية عبر (الموت والحياة) و(المنفى والسجن)، فقد يغدو المنفى حياة لكن القمع وحضور الجند حوله سجنا لا منفى وحسب! وحضرت الثنائية في مشهد موت جيروشنكا زوجة فيزيت وابنها أوزار في القطار الذي هجرهم، ثم في موت (امرأة وطفل) قبل انتهاء الرواية، ولأن المرأة هي الأم والخصب والحياة، والطفل هو الأمل والفأل ورجل الغد كان تكرر المشهد معبرًا عن تأرجح حياة المنفيين بين (الأمل واليأس). وكما بدأت الرواية أحداثها بالتهجير فقد جاءت خاتمة المشهد لرسلان بطل الرواية الذي هجر مع المهجرين عام 1991م في ساحة مدينة غروزني يحتفل بالاستقلال. (المنفيون:278) وقد شكلت هذه الثنائيات زخمًا وقوة للعمل وإثراء للمعاني وإجلاء للمفارقات فيه (انظر إلى وجوههم رغم هذا الموت الذي يحيطهم يمكنك أن تلمح فيها الحياة، ثم انظر إلى وجوهنا إنها أكثر حيوية منهم ولكنها لا تحمل سوى الموت) (المنفيون: 141) كما أبرزت الثنائيات حدة الصراع النفسي كما في حال بطلة الرواية (صوفيا) عندما وقعت في حب (إيفان) الروسي (تشعر أن قلبها يتهاوى بين حدين من الألم: ألم أن تحب، وألم أن تحب الشخص الخطأ) (المنفيون:153)
ثانيًا: الانحياز للأنثى:
يتضح للمتلقي انتصار الرواية للأنثى وانحيازها لها؛ إذ قدمت المرأة رمزًا للتحدي والصمود كما في فعل (صوفيا) ورفضها التوقيع استثناء من جميع المرحلين الذين أجبروا على التوقيع، ومن الشواهد كذلك عدم تقديمها لأي شخصية نسائية في الجانب الروسي وكأنما هي مغيبة ومبرأة من هذا التسلط وهذا العذاب الذي يعانون ويلاته، ثم قدمت صوفيا مضحية بحياتها ليعيش بطل الرواية (رسلان) مجددة لصورة الأسطورة الشركسية الأنثى (ستناي) التي ترد في ملاحمهم.
ثالثًا: الاستحضار التاريخي:
وهو يتناغم مع الثنائيات؛ فالحاضر يستدعي الماضي.. حفلت الرواية بالإحالات التاريخية التي تنم عن قراءة متعمقة مكثفة و(تحضير كتابي) مركز من قبل الروائية؛ فالرواية وإن كانت عملاً إبداعيًا فهي لا تخلو من حضور عقلاني واعٍ، ومما حفلت به الرواية تلك المقولات المقتبسة من روايات همنجواي وشكسبير ودوستويفسكي، وتلك الأمثال والأهازيج من التراثين الشيشاني والشركسي، وأشعار رسول حمزانوف. كما أحالت على بعض الأساطير مثل حمامة نوح وجبل البرونز، وراسبوتين، وبروميثيوس، والقيصر الرابع إيفان الرهيب. وكان الفن التشكيلي حاضرًا في مواضع عديدة تشي بترسخ هذا الفن في ذهن الكاتبة؛ فاستدعت (عملاق غويا) للإسباني غوي، و(تمجيد الحرب) للروسي فيرتشاغين، وترامبرانت وانطوان واتو... وغيرهم.
رابعًا: الانحياز للحياة: والرواية لم تكتب - ابتداء - إلا انتصارًا للحياة ضد الحروب والمنافي والسجون، ورغم كم الألم وسوداوية المشاهد التي أجادت الكاتبة في سردها وخاصة رحلة التهجير بالقطار، ومنه المشهد المروع الذي تمثل بتعلق امرأة مهجرة في القطار بنافذته وهي ترقب ابنيها اللذين كانا في عمر الخامسة والثانية يعدوان خلف القطار للحاق بها وقد تركا لوحدهم في العراء. وهو مشهد حقيقي التقطته الكاتبة من كتاب ( ملاك غروزني) وضمنته الرواية ليكون أحد مشاهدها المؤلمة جدًا، وهذا هو عمل الروائي الذي ينشد الإبداع؛ إعادة خلق الحياة لشخوص روايته وتصويرها، وبالتالي إعادة إحياء التاريخ كما تذهب لذلك الكاتبة ولاء أبو غندر. ويتجلى الانحياز للحياة في مفتتح الرواية بالآية الكريمة {..وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا..}، وفي وضع أسطورة حمامة نوح قبل أول فصول الرواية، تقول الأسطورة: «إن حمامة نوح استراحت على جبل البروز، لقد منحت بذلك أهالي الجبال ديمومة البدايات» (المنفيون: 9)، إن ديمومة البدايات تشير إلى ديمومة صنع الحياة في كل حين وتحت أي ظرف. كما تنتصر الرواية للحياة والأمل من خلال لحظة ولادة الطفل (جوهر) والمقصود به جوهر دوادييف الذي عاش ثلاثة عشر عاماً في المنفى وأعلن استقلال الشيشان عن روسيا بعدما كبر، وتنحاز للحياة عندما ترفض صوفيا قتل طفلة عمرها ثمان سنوات لسرقتها الطعام بسبب الجوع (المنفيون:172؛ لأن الطفولة أمل وإنقاذها إنقاذ لمستقبل الحياة نفسها.والمتتبع للرواية سيجد دالة الطفل /الطفلة متكررة في مواقف عديدة كلها تبشر بالحياة، فيما تشكل لحظات موته حالات اليأس التي تجتاح نفوسهم بعض حين! ولئن الرواية تنتصر لحياة الإنسان - كإنسان - بعيدًا عن التصنيف كان حضور المقدس الديني متنوعًا والتراث الإنساني متسعًا!
وأخيراً، فقد جاءت الرواية مثيرة بأحداثها، ثرية بمحتوياتها ومضامينها، متصلة الفصول، وإن من شيء فبعض هنات يسيرة لا تمس العمل ولا تؤثر فيه من أخطاء طباعية وقلة لغوية، وكان للكاتبة (كلمة أخيرة) حضورها غياب وفي الغياب حضورها!
إضاءة من الرواية: لقد أدركوا أنهم أحياء وعلى الأحياء أن يصمدوا، عليهم أن يكملوا، عليهم أن يعيشوا!
** **
- د. سعد بن سعيد الرفاعي