أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال المتسرعون: إن (النووي) أشعري؛ فقال أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري: على الرغم من كون الإمام (ابن حزم الظاهري) رحمه الله تعالى ينتقد الأشاعرة، ولا يرتاح إليهم، أنعم بالأشعرية وإن أخطؤوا في اعتناقهم المذهب الأشعري؛ لأن أكثر من ثلث العلماء الربانيين من الأشعرية، وهم الغامرون بلاد الأندلس وما تحتها من البلدان أيام مجد تلك البلدان بنشرهم الإسلام، وثلث علماء المسلمين منهم، وأكثر المراجع من عندهم، وأكثر علماء المسلمين منهم؛ وفيهم العلماء الربانيون الذين أجمع الناس على محبتهم لصدقهم وعظم بركتهم كالإمام (النووي) -رحمه الله تعالى- على الرغم من قصر عمره؛ فقد خلد الله ذكره، ونفع بعلمه، وبالأخص أذكر كتابيه: (رياض الصالحين)، و(الأربعين النووية)؛ فلا يستغني عن بركة هذين الكتابين وسائر كتبه العظيمة التحقيق أشعري ولا غير أشعري من علماء المسلمين مع العلم أن النقد الموجَّه للأشعرية صحيح؛ وهو على صحته لا يعكر على عظيم صدق الإيمان والمحبة لله ولرسله ولعلماء المسلمين، مع كريم تقصيهم أقوال العلماء، وتحقيق الثابت عنهم وغير الثابت. وللكلام عن صحة النقد للمذهب الأشعري حديث يأتي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى. وهؤلاء العلماء الأجلاء هم ذوو الرياضة للقلوب والنفوس والجوارح من جميع أهل المذاهب؛ ولاسيما مذاهب الأئمة الأربعة المتبوعين. ولقد بلينا بتعصب كل أهل مذهب لمذهبهم، ودعوتهم الناس إلى تقليده، والاجتهاد في تحقيق دلالتها فوق تحقيق دلالة نصوص الشرع المطهر. ولو ردوها إلى سلوك وعقيدة الأئمة أنفسهم: لوجدوا أنها مذهب أهل الحديث الحريصين على اتباع السلف بإحسان، وكلهم مجمع على معنى مقولة الشافعي رحمهم الله تعالى: (إذا صح الحديث فهو مذهب المطلبي). وكلهم آمر باتباع الدليل، وكلهم ناهٍ عن تقليده، وكلهم على منهج صدق في الحرص على تبين مراد الله، والتعبد لله به باستثناء الصورة السيئة فيما افتري على الإمام (أبي حنيفة) كما في كتاب (السنة) لـ(عبدالله بن أحمد) بدعوى أنه استتيب على الزندقة عشر مرات، وأنه مرجئ؛ فما أقبح وأكذب هذه الدعوى؛ ويا لله من الذي استتابه، ومن الذي حكم باستتابته، وفي أي الأعوام كان ذلك، وكيف يستتاب الزنديق عشر مرات وإنما هي مرة واحدة؛ فإن أصر قُتِلَ؟!.. وأما الإرجاء عقيدة فليس هو مذهبه؛ وإنما اتبع التقسيم الصحيح في سورة التوبة لمشركين، ومنافقين مردوا على النفاق، وذوي السبق والأولي، الذين ضمن لهم محققو العلماء السعادة في دنياهم؛ وكل ذلك في اجتهادهم دال على عصمتهم في الدنيا؛ فكانوا بهذا قدوة، مع علمهم أنهم خلطوا عملاً صالحاً، وآخر سيئاً كالعبد الضعيف كاتب هذا المقال؛ فهم من الناجين قطعاً بإذن الله تعالى؛ لضمانة الله دوامهم على الاستقامة؛ وذلك بترجية الله، لهم ولو تساوت حسناتهم وسيئاتهم فرحمة ربي ترجح الميزان؛ فكيف وميزان الحسنات ثري جداً، وميزان السيئات شحيح جداً، والسيئات يبدلها الله حسنات للتائبين تبديلاً يتلاءم مع درجات إحسانهم.
قال أبو عبدالرحمن: في هذه العجالة أذكر هذه اللمحة عما سموه الصفات الخبرية والذاتية؟!.. قالوا: أول شيء يبيّن خطأ مَن ظن رجوع الأشعري إلى عقيدة السلف في مرحلة ثالثة: هو بيان عقيدة (ابن كلاب) في الصفات؛ فابن كلاب لا يعرف عنه إثبات الصفات السبع دون غيرها، بل المعروف عنه إثبات الصفات الذاتية الخبرية قولاً واحداً؛ فهذا ما قرره الإمام (ابن تيمية) - رحمه الله تعالى - في غير موضع من كتبه، منها قوله: «(ابن كلاب) وأئمة أصحابه كـ(القاضي أبي بكر بن الطيب) وأمثاله فإن هؤلاء متفقون على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد والاستواء».. انظر كتاب (درء تعارُض العقل والنقل) لـ(ابن تيمية) 5/ 248. وقال: «أهل الإثبات للصفات لهم فيما زاد على الثمانية ثلاثة أقوال معروفة، أحدها إثبات صفات أخرى كالرضا والغضب والوجه واليدين والاستواء؛ وهذا قول (ابن كلاب)، و(الحارث المحاسبي)، و(أبي العباس القلانسي) و(الأشعري) وقدماء أصحابه كـ(أبي عبد الله بن مجاهد)، و(أبي الحسن بن مهدي الطبري)، و(القاضي أبي بكر بن الطيب)، وأمثالهم. وهو قول (أبي بكر بن فورك)، وقد حكى إجماع أصحابه على إثبات الصفات الخبرية كالوجه واليد، وهو قول (أبي القاسم القشيري) و(أبي بكر البيهقي)، كما هو قول سائر المنتسبين إلى أهل السنة والحديث. وليس للأشعري نفسه في إثبات صفة الوجه واليد والاستواء وتأويل نصوصها قولان، بل لم يختلف قوله أنه يثبتها، ولا يقف فيها، بل يبطل تأويلات من ينفيها، ولكن (أبو المعالي) وأتباعه ينفونها».. انظر كتاب (درء تعارض العقل والنقل) 3/ 380- 381؛ فمذهب (ابن كلاب) و(الأشعري) والمتقدمين من المنتسبين إلى مذهبه: إثبات الصفات الخبرية في الجملة، وليس مذهبهم كمذهب المتأخرين فيها، الذي لا يختلف عن مذهب المعتزلة كثيراً. وقولنا: «إنهم أثبتوا الصفات الخبرية في الجملة»؛ لأنهم مع إثباتهم لها وردهم تأويلات المعتزلة لها قد أخطؤوا في تفسير الصفات الفعلية؛ فإثباتهم الاستواء، وردهم على من أوله بالاستيلاء: يخرجهم عن دائرة الاعتزال، ولا يدخلهم دائرة أهل السنة؛ لأنهم فسروه تفسيراً آخر غير صحيح. وأما الصفات الخبرية الذاتية، كالوجه واليدين، فإنهم لم يترددوا في إثباتها، ولم تكن لهم شبهة فيها. والله تعالى أعلم. وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى. والله المستعان.