في أحد الأعداد السابقة وعدتُ إحدى السائلات بالرد على معاناتها من جراء حالة التناقض والمزاجية التي تعانيها في تعاملها اليومي مع زوجها؛ فهو على الملأ وأمام الناس إمام جامع كبير، وأستاذ جامعي، وفي بيته عنيفٌ، سيئ التعامل، يهجر زوجته ليالي طوالاً، ويضرب أبناءه من جراء قيامهم بأي مخالفة ولو ذوقية، بحجة أن ذلك يعرِّضه للحرج أمام الناس!
إن فَهم الحالة النفسية لمن يتعامل بتناقض، ومزاجية، يساعد مَن حوله إلى حد كبير على تفهُّم حالته. وهذا لا يقتصر على المتدين وحده (أي زوج السائلة)، بل يشمل كل من يدعو لقيمة ظاهرًا، ويخالفها سرًّا.
(مراجعتك «استنارة» في الصفحة نفسها من «اشراقات» ستساعدك إلى حد كبير في تفهم ما يدور بداخل العقل من اقتسام وصراع. ولا شك أن ذلك يظهر على السطح من خلال السلوكيات والممارسات وطرق الضبط ووسائل التعامل مع من هم تحت ولايته).
إن أكثر الأعضاء التي تمثل القيادة وإدارة وجهة سائر أعضاء الجسد تكمن في الرأس، في حين أن ملكها وسيدها ومَن يصدر الأوامر والنواهي، وبصلاحه يصلح الجسد، وبفساده يتعطل ويفسد، هو القلب.
إن مع صفاء وشفافية قلب المؤمن تتلألأ الإشراقات، وتنعكس الأنوار، وتعتم المشكاة بحسب ضعف الفتيلة، وبما يعلق بمصباح القلب من أدران. وتتفاوت بينهما بحسب نصاعة وقوة الزيت تارة، وبحسب حال القلب المستقبل والعاكس معًا. وينكشف ذلك، ولاسيما في حال غلبة تيار إعصاري، يتمايل معها الفتيل، ويكاد ينطفئ.
فمن يؤمن بقيمة يتمثلها طواعية، ويعدها جزءًا من معنى وجوده، ورسالته في الحياة. أما من لم يعثر على قيمته بعد فهو يبقى تائهًا ضالاً حتى يعثر على قيمة ما، فيجعلها تمثل هويته، ولاسيما في مرحلة تطوره الفكري (الشعوري والانفعالي)، تجده يمتطي الموجة العارمة تقليدًا لغيره، إما لعلو مدها آنذاك، وإن لم تلامس حقيقته، ولم يسعد بها، كمن يفرح بضالته. لأن النية ابتداء مِن امتطائها كانت مجاراة للجموع، وطلبًا للقبول، وبحثًا عن الانتماء، أو لأن تلك القيمة كانت تخفف من حدة غضبه وتوتره آنذاك، وتُشعره بقدرته على التحكم، وبالرضا عن نفسه، ورضا الجماعة عنه، لكنه حينما يكبر، وتتراكم تجاربه المتنوعة، ويتجاوز معها احتياجاته الأساسية السابقة، وقد تمكن من أن ينال مركزًا ذا شأن وقيمة، يرى أن تلك الالتزامات لم تعد تعنيه أو تمثله، وفي صورته الحالية هو غير محتاج لها أصلاً، ولكن للضغط المجتمعي حوله فلا مناص من الالتزام بذلك ظاهرًا حفاظًا على صورته المجتمعية، وللتنفيس عن ضجره وملله، في حال خلوته، أو بمعية مَن لا يعبأ بحكمه فيه، أو يقلق بشأن صورته أمامه، كزوجته أو أبنائه، تجده يتخلى عن بعض سمات قيمه، بل يصرح بنيته من وراء تمثيله وادعائه.
القيم الحقيقية لا تستعار، ولا تقلد، إنها القيم التي من خلال مرآتها المصقولة نفهم العالم، ونحبه ونتقبله.
ربما هذا توصيفٌ موجز لحالة زوجك، ومثله عدد كبير. أما القرار فهو عائد إليك.
شرح الله صدورنا، وأنار بصائرنا.
** **
- لاستقبال الاستشارات
Hoda.mastour@gmail.com