د.محمد بن عبدالرحمن البشر
سقطت غرناطة في عام 1492 ميلادية، وواجه المسلمون في الأندلس أحداثًا جسامًا، وفي نهاية المطاف أُجبر من بقي منهم على اعتناق الكاثوليكية، وبعد أكثر من سبعين عامًا، وفي عام 1565 ميلادية، صدر مرسومٌ دار حوله جدل داخل إدارة الملك فيليب؛ فقد كان الملك فليب، ومَن قبله، يرون أن المسلمين الذين تنصروا لم يكونوا صادقين، وإنما استتروا بالتقية مع بقائهم على ديانتهم، كما أنهم كانوا يمارسون العبادة خفية، وبعيدا عن أنظار الناس.
فبعد عودة رئيس أساقفة غرناطة السيد/ بدور جوريو من المجتمع الكنسي في برنت بإيطاليا عزم على استئصال ما تبقى من الثقافة الأندلسية الإسلامية؛ فقد أكد المرسوم الملكي على منع الرقصات والأغاني والآلات الموسيقية الأندلسية، وكان هذا المنع قائمًا منذ زمن، لكن كان هناك تساهل في التطبيق؛ فشدد على تنفيذه، وأضاف إليه عددًا من القوانين، من أهمها أن يترك المورسكيون أبواب منازلهم مفتوحة أيام الجُمع؛ وذلك خشية تجمعهم لإقامة صلاة الجمعة، وكذلك ترك أبوابهم مفتوحة أيام الأعياد الإسلامية حتى لا تقام شعائر الأعياد، والتوقُّف عن التحدث باللغة العربية وكتاباتها. وقد أُعطوا مهلة ثلاثة أعوام حتى يمكنهم تحدث اللغة القشتالية وكتابتها بدلاً من العربية، وحرق جميع الوثائق ذات الطابع الديني. أما الكتب والنصوص العربية فيجب حرقها بعد ثلاثة أعوام بغض النظر عن محتواها، وحظر الحمامات العامة، وهي الحمامات التي كانت سائدة في الأندلس، وما زالت سائدة وموجودة بكثرة في المغرب العربي وسوريا، وقد جلبها العرب معهم من الشام بعد فتح الأندلس. كما أمر بهدم ما هو قائم، وعدم إنشاء جديد، رغم أن الحمامات العامة كان يرتادها كثير من النصارى، لكنها تظل رمزًا ثقافيًّا إسلاميًّا كما تراه الكنسية. وفي الحقيقة إنه ليس إسلاميًّا، لكنه عادة وفدت إلى عرب الشام، ومنها انتقلت إلى غيرها.
كان هناك رجل اسمه نورنيت مولاي، كان يمثل المورسكيين في الاجتماعات الرسمية في غرناطة، وعند البلاط الملكي، وعند بروز تلك الأحداث كان كبير السن، وذهب إلى السيد/ ديثا، رئيس المحكمة والآمر بتنفيذ المراسيم، وطرح عليه خطورة هذه المراسيم، وعدم قناعته بها، وأثرها المتوقع على المملكة الإسبانية، كما أنه طرح حججًا وأسبابًا لعدم منطقية المراسيم، وعدم عدالتها، وما قد تجلبه من مآسٍ إنسانية وأمنية وسياسية. ومن حسن الطالع أن المؤرخ الإسباني المعاصر السيد مندوسه قد سجل تلك الحجج.
ولعلنا نسرد حجج السيد مولاي الذي يرد بها على المراسيم الملكية، المشارك في التحريض على إصدارها وتنفيذها السيد/ ديثا.
لقد أوضح عدم الربط بين الثقافة المورسكية والدين الإسلامي؛ فالرقص الأندلسي المورسكي عادة فلكورية، لا يمارسها المسلمون الملتزمون، بل إنها غير مقبولة لديهم، كما أن اللباس عادة وليس دينًا؛ فجميع المجتمعات والمقاطعات النصرانية في العالم تختلف عن بعضها في شكل لباسها، مع أنهم جميعًا نصارى. كما أن لباس المورسكيين في الأندلس يختلف عن لباس المسلمين في فاس، وفي غيرها، ولباس أهل فاس يختلف عن لباس أهل تلمسان، وما يلبسه أهل المغرب، مع أنهم جميعهم مسلمون. كما رفض إقحام الملحفة، وهي الغطاء الذي تلبسه النساء لتغطية الرأس والوجه لمن رغب في غطاء الوجه، وساق مبررًا أن النصرانيات فيما مضى كن يغطين رؤوسهن ووجوههن حتى لا يراهن الناس فيعرفونهن. كما أوضح أن النساء المورسكيات يفعلن ذلك حتى لا يرى الرجال وجوههن الجميلة، فيفتنون بهن، ويقومون بمغازلتهن وملاحقتهن بطريقة غير مشروعة.
كما دافع عن ارتياد الحمامات العامة، وأنه ليس لها علاقة بالإسلام، لكن الناس ألفوا الذهاب إليها من باب الحرص على النظافة والصحة في مكان يتوافر فيه ماء ساخن ونظيف، يكفي لأكبر عدد ممكن؛ فالجسم - حسب قوله - يطرد كل أنواع القذارة والأخلاط السيئة من خلال العرق؛ لهذا وجب التخلص منه. ونفى أن تكون الحمامات بؤرة لممارسات العلاقات غير الشرعية؛ لأنه قد خصص للرجال أيامٌ، وللنساء مثلها، دون اختلاط. كما أن من أراد العلاقة غير الشرعية يمكنه أن يمارسها في المنزل أو غيره، وليس في مكان عام، ولاسيما أن مَن يعمل في الأيام الخاصة بالرجال هم من الرجال، ومن يعمل في الأيام الخاصة بالنساء هم من النساء. كما بيّن أن اللقاءات غير الشرعية قد تتم أثناء الاحتفالات، وزيارة الكنائس التي يختلط فيها الرجال والنساء.
أما ما يخص اللغة العربية فقد أوضح نورنيت أن اللغة العربية ليس لها علاقة بالدين الإسلامي، حتى وأن نزل القرآن بها؛ فهناك مسلمون كثيرون يتحدثون بلغاتهم الخاصة بهم، كما أن الكنيسة في فترة مضت قد دمجت اللغة العربية في طقوسها، إضافة إلى أن هناك الكثير من المسيحيين في المغرب والشام والعراق وغيرها لا يُحسنون سوى اللغة العربية، وهم مسيحيون مخلصون؛ فاللغة العربية بريئة؛ لذا ليس من المنطق إجبار الناس على ترك لغتهم، حتى وإن أُجبروا على عدم استخدامها فإن ثلاثة أعوام ليست كافية لتعلُّم لغة جديدة، وقد يتطلب ذلك عشرين عامًا.