د. محمد بن إبراهيم الملحم
أواصل هنا حديثي عن نتائج بيزا PISA 2018 كدراسة وليس كاختبار لأداء الطلاب فقط وما كشفته هذه الدراسة عن عوامل مهمة يمكن أن تشير إلى مواطن الخلل المسببة لانخفاض نتائج طلابنا في هذا الاختبار الدولي المقنن والموثوق، وأتحدث اليوم عن عامل الفروق بين الجنسين وله دلالات مهمة اجتماعية واقتصادية وبحسب موقع جي بي اس التعليمي الخاص بمنظمة OECD التي أجرت اختبار بيزا فهي تصف الفرق بين نتائج الأولاد والبنات السعوديين بأنه فرق كبير مقارنة بنفس الفرق للدول الأخرى «المشاركة»، حيث كانت نتائج البنات أكبر من نتائج الأولاد في كل المواد: القراءة (بفارق 54) والرياضيات (بفارق 13) والعلوم (بفارق 29)، وهذه نتيجة تستدعي التوقف لا لنفتخر بنتيجة البنات التي تفوقن بها على الأولاد (فكلاهما منخفض بالنسبة للمتوسط العام للدول)، ولكن لنطرح عددا من التساؤلات المهمة، وقبل ذلك أوضح أولا أن الأدبيات التربوية تشير إلى أن الدراسات الباحثة للفروق بين الجنسين فيما يتعلق بالجانب اللغوي أثبتت بدلالة صريحة أن البنات يتفوقن على الذكور لغوياً وهذا لا يتعلق بالدراسة، بل هو ملاحظ منذ مراحل الطفولة الأولى، حيث الطلاقة اللغوية واللفظية للبنات أبكر وأفضل من الأولاد وهذا باتفاق الدراسات العربية والأجنبية، والواقع إن قائمة دراسة بيزا التي نشرتها OECD تقول ذلك أيضاً فقد أوردت قائمة مرتبة تصاعديا بالدول بحسب الفرق في نتائج القراءة بين الجنسين وجميع الأرقام لمادة القراءة كانت بالإشارة الموجبة لجميع الدول (ضع في الاعتبار أن الفرق هو نتيجة طرح درجة البنات - درجة الأولاد) ولا تلمح أيّ إشارة سالبة، بل إن أقل رقم للفروق هو (10) لدولة كولومبيا، بينما خانة الفروق لكل الدول لمادتي الرياضيات أو العلوم تعج بالسالب والموجب مع أرقام كبيرة وكذلك صغيرة مثل 1 و 2 وصفر.
عندما نقول نتائج مرتبة تصاعديا بالفرق في نتائج القراءة بين الجنسين فهذا يعني أن الأقل فرقا في الأعلى (حيث يمثل ذلك جودة للنظام التعليمي لأنه نجح في تقارب الجنسين في الأداء) أما الأكثر فرقاً فيكونوا في الأسفل، وكانت نتائج السعودية الثالثة قبل الأخيرة، وقيمة الفرق 54 يبتعد بمسافة مهمة عن المتوسط العام لدول OECD وهو (30) وهذا الفرق دال إحصائياً (أي له اعتباره العلمي) بحسب تقرير الدراسة، ليس هذا فحسب، بل نتائج الطالبات كانت أعلى في الرياضيات والعلوم وبدلالة إحصائية أيضاً، بمعنى أن هناك سبباً وجيهاً لهذا الفرق بين البنين والبنات، بعض الدول الأخرى التي لوحظت فيها هذه الظاهرة (ارتفاع نتائج البنات عن الأولاد في كل الموضوعات) هي أيسلاند وإندونيسيا وبروناي دار السلام وقطر والإمارات وتايلند والنرويج وقبرص ومالطا وفنلندا ومقدونيا الشمالية كما وجدت بفوارق ليست قليلة جدا في كل من الأردن وإسرائيل والفلبين وبعض الدول الأخرى ولكن لم تكن جميع الأرقام لهذه ذات دلالة إحصائياً، اللافت للانتباه أن قطر والإمارات والسعودية كانت الثلاثة الأولى في الفوارق، وهذه النتائج لا تبشر بالخير، وبالنسبة لنا فلا بدّ أن نتساءل لماذا تظهر فروق كبيرة في كل المواد لا في القراءة فقط، فهذا مؤشر على تفوق تدريس المعلمات على تدريس المعلمين بدون شك، وكذلك تفوق إدارة المدرسة الثانوية للبنات مقارنة بإدارة المدرسة الثانوية للأولاد (سن الاختبار 15سنة الصف الأول الثانوي) لماذا هذه الفروق في حين أنهما تديرهما وزارة واحدة! وهنا نعود إلى الوراء عام 1423 الموافق 2002 عندما قررت الحكومة الرشيدة وفقها الله أن تدمج الرئاسة العامة لتعليم البنات وهي في مستوى وزارة مع وزارة المعارف لتوحيد السياسات والأداء فما هي نتيجة ذلك الدمج يا ترى؟.. لماذا تستمر الفروق في الأداء والممارسات بين الفريقين وحتى متى لا نستثمر «تعليميا» في هذا الدمج؟.
كل ذلك مدعاة إلى وقفة جدية مع هذه الظاهرة، ولا تكون في الحقيقة بحل متطرف عندما نقول إذن فلتدرس المعلمات أطفالنا!؛ بل بالنظر إلى القيم المتوفرة في المعلمة السعودية ومقارنتها بما هو مفقود لدى المعلم السعودي وبحث أسباب ذلك والعمل على تلافيه، وعندما أقول القيم ولا أقول المهارات فلأني أعلم (وأنتم كذلك) أنهما من كوكب واحد ودرسوا في جامعات واحدة ومناهجهم واحدة فالقدرات العلمية (وربما التدريسية أيضاً) واحدة، والفرق إنما هو في العطاء، وهذا مشهور ومنتشر بين الناس، ولذلك كانت قيم العمل هي أول توقع في تشخيص المشكلة، ومع ذلك فلا أتنكر لشخصيتي البحثية العلمية وأطالب بدراسة بحثية موثوقة ومحايدة لكشف أوجه الفروق بين الجنسين، وكذلك بحث بيئة مدرسة البنات ومقارنتها ببيئة مدرسة الأولاد شاملاً القيادة والموارد والنظم والممارسات الشائعة. والإنفاق على مثل هذه الدراسة تبرره بقوة نتائج دراسة بيزا وتدعو إليه بقوة.