د. عيد بن مسعود الجهني
حال أمتنا تجعلنا ندق أجراس الخطر، فالواقع العربي المعاصر هو أكثر القضايا إلحاحاً لمواجهة التحديات التي تفرضها ظروف العصر.
كيف كنا وكيف أصبحنا؟ إنه السؤال (الملح) الذي يهز النفس هزاً عنيفاً، ويستدعي الحسرات والعبرات والآهات.
كنا الأمة التي تقود العالم قوةً واقتداراً.
كنا الأمة التي ترتجف لصوتها قلوب القياصرة والأباطرة.
لا يتجرأ علينا متجرئ ولا يتعدى معنا سفيه حدوده، أهدافنا سامية ووسائلنا لهذه الأهداف ماضية تبلغ بنا الغايات وتحقق لنا مجداً تليداً وعزاً أكيداً ومكانة بين الأمم سامية رفيعة.
لكن - وما أقسى لكن هذه - تغيَّرت الحال وساء المآل، وقلبت لنا الدنيا ظهر المجن، فبعد أن كنا نقود العالم فيتبعنا طوعاً أو كرهاً أصبحنا أمة تتكالب عليها الأمم.
وأخشى إن استمر الحال على ما هو عليه من تدهور مع تزايد الضغوط الدولية المخططة بمكر ودهاء وخبث سياسي واقتصادي وإستراتيجي.. فأصبح التهميش لقضايانا واقعاً وبلاد من أوطاننا تمزقت وغارقة في جراحها تنزف وتصرخ بلا مجيب!
ولتجنب هذا المصير (الأسود) لا بد للأمة أن تنهض من كبوتها تلك وتعمل من أجل التقدم في جميع المناحي السياسية والاقتصادية والعلمية والعسكرية.. وذلك لا يتم إلا بالتكاتف والتآزر وتوحيد الجهود فالمسؤولية مسؤولية الجميع.
والشيء المؤلم والعجيب حد الاندهاش في الوقت نفسه أن الأمة الإسلامية - تعاني الخور والضعف وخيبات الأمل المتلاحقة منذ أكثر من سبعة عقود، ينخر عظامها التخلف والانحطاط وتتوالى عليها الكوارث كل واحدة منها أكبر من أختها حجماً.
كانت إسرائيل تطلب الصلح والعرب يمتنعون، بل (يستكبرون) فها هي اليوم ترفض السلام، حصلت من السيد ترامب على صكوك القدس عاصمة لها والجولان أرضاً لها والمستوطنات لها.
يجب أن نفهم أن سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، وانفراد أمريكا بقيادة العالم والهيمنة خاصة في المحيط التكنولوجي من الحضارة لم ينل من همم الذين يدركون أن سنة (الكون) لا تعرف الثبات.
وأن أمريكا مهما بلغت قوتها وحضارتها فإنها تفتقد إلى قيم العدالة والحق رغم رفعها للشعار الزائف للحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان.
وهي لن تستطيع فرض سيطرتها المطلقة على حركة العلاقات الدولية.. فبروز قوى أخرى لن تحجبه (قوة) أمريكا.
أتذكر حالنا وما زالت حالة تلك السيدة العراقية وهي في قلب المخلفات تبحث عن لقمة عيش تقدمها لأطفالها الجوعى في بلد من أغنى دول العالم بالنفط الذي يقدَّر احتياطيه بـ(147) مليار برميل ناهيك عن مصادر الثروة الأخرى التي تحتضنها بلاد الرافدين.
العراق مهد الدولة العباسية ومن على أرضه كانت هناك بطولات وفتوحات.. اليوم تسيطر عليه دول الشر أهمها طهران تسرق ثرواته نهاراً جهاراً وتؤسس الميليشيات التابعة ولاءً لها تستمد أوامرها من خامينئي.
العراق الجريح منذ احتلاله عام 2003 نهبت ثرواته واستشرى فيه الفساد وأصبح معظم أهله في ساحة الفقر المظلمة.
بل إن أصحاب السلطة التنفيذية والميليشيات عملوا على دعم بلاد الفرس بمئات المليارات من الدولارات من إيرادات النفط والموارد الأخرى، وأصبح الفساد في ذلك البلد شراً مستطيراً ليبلغ ترتيبه (170) يدفع ثمنه شعب العراق.
الجرح العربي النازف لا ينفرد به العراق فتلك المرأة العراقية المظلومة باختزال حقها في الحياة نراه متجسداً في لبنان بلد العلوم والثقافة، اثنان من المواطنين لقيا حتفهما بأيديهما، الأول قهره الفقر لم يستطيع شراء قطعة خبز لابنته فضاقت به الدنيا فقتل نفسه أمام أسرته، والثاني استغني عنه في عمله فاسود كل شيء أمام عينيه فأحرق نفسه أمام المتظاهرين.
هذا واقع مشين محزن كئيب في ظل توقفنا نحن العرب عن فهم هذا الواقع أو فهمناه وتجاهلناه!
ولننظر إلى بلاد الشام التي يقبع على دمشق دكتاتور صنعته إيران وروسيا وأمريكا وفرنسا وتركيا وغيرها.
وإذا بلغ الأمر من السوء مبلغه يقولون (إنه لا يسر عدواً ولا صديقاً)، وما سوريا إلا مثل مؤلم ومحزن.
كل من يملك في نفسه ضميراً حياً أو شيئاً من الغيرة، يتذكر الطفل الخطيب وقد غطت جسده الرمال وهو ينتشل من تحت الأنقاض في حلب، ونتذكر هجرة نصف السكان السوريين مشردين من بلادهم، بعد أن بلغ القتلى ما يقرب من المليون وأضعافه من الجرحى والمعوقين. ونتذكر الطفل الدرة وهو يلفظ أنفاسه بين ذراعي والده برصاص إسرائيلي.
من شاهد هذه المناظر الكئيبة المحزنة في بلاد العرب.. لن يملك وهو عاجز عن رد المظالم.. وقوى الشر إلا أن يبكي دماً على الحال التي وصلت إليها أمتنا من الضعف والخوار.
أما اليمن السعيد الذي خرج الحوثيين من كهوف صعدة ليختاروا لأنفسهم اسم (أنصار الله) على غرار (حزب الله) فقد عاثوا بالبلاد فساداً قتلاً وتشريداً لتنصب الكوارث والنكبات على شعب اليمن.
هذان الاسمان براء من اسم الله فهما أصحاب القتل والتشريد والفساد وارتكاب الجرائم البشعة بحق البلاد والعباد.
اليمن التي استقبلت مبعوثي الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبو موسى الأشعري - رضي الله عنهما - ليعلّموا الناس دين الله الخالد ويقرؤون عليهم القرآن ويصلّون بهم، وقال لهم صلوات الله وسلامه عليه (يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا)، اليوم يعوث بها الحوثيون رجال إيران فساداً لتصبح اليمن السعيد أسوأ حالاً وأردأ مآلا.
للأسف هذه هي حالنا انكسار وتشتت وتشرذم، ولو كان ذرف الدموع يحيي الأموات لذرفنا بدل الدموع دماء، ولكن متى أحيت الدموع ميتاً فالرحمة للأموات.
وإذا كانت ثورات ما سُمي بالربيع العربي قد تحولت إلى خريف أسود انقلبت الشعوب على بعضها البعض ففي ليبيا التي يذكر التاريخ مناضلها الشهيد عمر المختار، اليوم تئن تحت وطأة حرب أهلية ضروس لا تبقي ولا تذر امتدت إليها أياد عديدة آخرها ولن يكون الأخير التدخل التركي.
وإذا كانت المظاهرات في لبنان والعراق وسوريا ترفع رأسها عالياً مطالبة بطرد إيران وأعوانها، فإن الحال في اليمن وليبيا لا يقل انكساراً، بل قد يزيد.
والسودان لن يكون آخر القافلة، فأيد واضحة وأخرى خفية تسكب الغاز على النيران المشتعلة.
إذا التفتنا يميناً ويساراً فسيذهلنا ما نرى ويحز في نفوسنا ما نشاهد.
فحيثما ولينا وجهونا نرى النار مشتعلة ولا تنطفئ في وطننا إلا واشتعلت نار أخرى.
الوطن العربي الغني بالنفط والغاز فالأول يبلغ احتياطيه منه (710) مليار برميل يمثِّل (55.6) في المئة من إجمالي الاحتياطي العالمي، والثاني تبلغ نسبته (26) في المئة من الاحتياطي العالمي، ناهيك عن موقعه الإستراتيجي والممرات المائية، فهو رئة العالم النفطية والإستراتيجية والتجارية.
إذا أردنا أن نستفيد من عبر ودروس التاريخ الذي يلقي علينا دروسه بلغة فصحى، ليقول لنا إن الوحدة والاتحاد في مواجهة الأخطار التي تطوِّق دولاً عربية هي البوصلة التي تنير الطريق للأمة للتعاضد والتكاتف لانتشال العراق من جحيم الهاوية.
اللهم حقق لنا قولك الكريم {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران 103).
والله ولي التوفيق