د.فوزية أبو خالد
أبدأ هذا المقال بأن أشكر جريدة الجزيرة على ما تملكه من ملكات الصبر اللا متناهية والمنتجة في التعامل مع مهنة الصحافة في المطر والشمس وفي الوفرة والتقشف في المد والجزر وفي الجمود والتحولات وما بينهما من ذبذبات للحفاظ على وجود يعبّر عن الوطن والمواطن ما استطاعت لذلك سبيلا. ولا أنسى شكر رئيس التحرير خالد المالك والزملاء الأعزاء، ومنهم عبدالإله القاسم وفيصل المبارك وخالد المشاري ونائب رئيس التحرير فهد العجلان مع حفظ الألقاب على صبرهم المهني معي شخصياً ومع قلمي على مدى ربع قرن سواء في عادتي السيئة في تأخير إرسال المقال أو في عادتي الطيِّبة في الإخلاص المتطرِّف لأمانة الكلمة بأكثر مما يسمح الحال أحياناً. فليس إلا رئيس تحرير متحلٍّ بنعمة الصبر والبصيرة، وطاقم تحرير صبووووور يطيق التعامل مع مختلف الكُتَّاب وفي مختلف الظروف وبحرص شفيف على التوزان بين صوت المجتمع والصوت الرسمي.
وأعود لنعمة الصبر موضوع المقال بمعناه القيمي والجمالي.
* * * * *
أتذكر أن تلك المرأة الرمحية الباسقة نادتني يوماً من أيام طفولتي وقد كنتُ أمر بموقف عصيب واقفة على قدم واحدة، إذ كانت بيديها الرقيقتين قد حزمت بقسوة على قدمي الأخرى كيساً من الرمل, نادتني لا لتهدهدني أو تضع رأسي على حجرها الفواح دائماً برائحة الحناء، ولكن لتقول لي أقدمي وتعالي خذي ما بيدي سيساعدك كثيراً على ما تمرين به وستستطيعين أن تصلبي عودك دون توكؤ, وعندما تحاملتُ على نفسي بصعوبة وألم وبعد عناد وجئت إليها بوجه يقطر دموعاً ومخاطاً، كانت السيدة السدرية لا تزال تقبض بملوكية على ذلك الشيء العزيز الغامض في باطن كفها, وحين قربتُ يدي الصغيرة من يدها رفعت أصابعها السنابلية ببطء شديد وتركت أصابعي تندس في كفها وهي تقول بسخاء خذي انهلي من نعمة الصبر, ومع أن يد أمي كانت تبدو فارغة إلا أنني طفقت أغرف وأغرف وأغرف حتى امتلأت جيوبي واحتقنت شرايين دمي وبدأت تقطر أطراف ضفائري بماء ذلك السائل السحري الصلب سحر الصبر الذي جعلتني أمي اقبض عليه بحواسي الخمس على سعة كفها الطائية.
كانت تلك المرأة النخيلية، كلما شبت نار شحنة الأشقاء وشقاوات الطفولة بين الإحدى عشرة عفريتة وعفريتاً أو كلما عيّ صبرنا من أمر استعصى على أحدنا في حل مسائل الرياضيات أو في تسلّق شجرة النبق/ السدر، تهمس لنا مبسملة مستعينة برقية الصبر وأعشابه المتدلية من عرائش كلماتها في صور جديدة أكثر خيلاء من سابقيها, كأن تقول أنتم جيل يجلس على مقاعد الدراسة سبع ساعات، ينحني على الورقة والقلم نصف ساعات صحوه ألا يكفي هذا لإكسابكم نعمة الصبر, هذه النعمة التي بدونها لم يكن للبشرية أن تنعم بإنجاز حضاراتها.
كانت تشير بشاهد أصابعها السنابلية نفسها إلى بناء الكعبة المشرَّفة وتقول لي فكري كم بين حجارته من صمغ الصبر رغم أنه لم يكن لينهض بدون الإعجاز الإلهي.
كانت تمعن في تفاصيل الصبر وحلب أخيلته من وحش الحياة اليومية العادية، فتشير مثلاً إلى رغيف الخبز, إلى عنقود العنب إلى لؤلؤ الرمان الياقوتي وتقول لي أطعميه تمعني في الطعم، لو أصغيت للمذاق قليلاً فإنك ستسمعين موسيقى الصبر، ستتذوقين نكهة الصبر خالصة مصفاة واضحة وشفافة من بين كل مكوناته الطبيعية الأخرى. خذي شمي رائحة الصبر تتضوع من هذه القارورة (تولة العود) أو تلك الزهرة, امسكي بأصابعك العشر ملمس الصبر في هذه البلوزة الصوفية المشغولة باليد. تسألني بمرح تلك السيدة النافذة البصيرة، إذا مشيت حافية على تلك السجادة العجمي بصدر مجلسنا العربي: هل احتكت قدمك بحرارة الصبر تنضح من العيون التي فتلت خيوط السجادة, ومن المخيلة التي لونت الخيوط ومن الأيدي التي نسجتها على هذه الهيئة البديعة؟!
في مراحل عمري اللاحقة، في الامتحانات النهائية لمرحلة الثانوية العامة، عند إعدادي لكتابي الشعري الأول قبل ذلك، حين كتابتي لعمودي اليومي (قطرات) أثناءها كنتُ أهرع إلى كف أمي وأنهب ما وسعت يداي من تلك الوصفة السحرية التي لا تفرغ أصابعها من غزلها ولا تتوقف روحها عن تقطير رحيقها.
أما في حملي البكر وما بعده فقد تطور إحساسي بنعمة الصبر من هاجس متخيل إلى علاقة عشقية يومية أرى الصبر معها رؤيا العين أصحو وأنام معه كلما تحرك الجنين في أحشائي, بدون نعمة الصبر، سحر الصبر، سلسبيل الصبر ومره لم أكن لأستطيع الصمود تسعة أهلّة بوهن على وهن أصفح عن حيادية آدم في عذابات الحمل والولادة وأتباهى بآلام الأنوثة. لا أظن أي امرأة في الكون كانت يمكن أن تتحمَّل وجع الطلق المرعب وتصمد لحظة الولادة دون أن تركض بجنون في كل الاتجاهات غير عابئة برأس الجنين وحبل المشيمة المتدلي من الرحم لولا شيمة اسمها الصبر
في نقاش حميم حول نعمة الصبر بعد أن كتبت هذا الموضوع لفت بعض من الأصدقاء الضليعين في العلم نظري إلى ملاحظة حكيمة وهي كيف أن الصبر كما ورد في سورة الكهف كان شرطاً أخلاقياً ونفسياً وعقلياً أساسياً من شروط العلم والمعرفة في قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح.
هذا وليلهمنا الرحمن صبراً جميلاً لنتعلَّم التعامل مع هذه التحولات الناعمة والخشنة التي يمر بها مجتمعنا فنتعلم نعمة التفكير ونعمة المسؤولية ونعمة العمل ونعمة الأمل ونعمة التمييز بين الخبز والكيك، وبين المواطنة التعصبية والمواطنة المتفاعلة والمستعدة أن تصنع المكتسبات ولا تكتفي بقطوفها فاستيعاب التحولات وصنعها يحتاج لموهبة عريقة اسمها ملكة الصبر.