د.ثريا العريض
لبناء مجتمع سعيد ومنتج ومستقر ومترابط، لا بد أن تتوافر لأفراده ضروريات الصحة العامة بجانبيها، الصحة الجسدية والصحة النفسية، وبشطريها الوقائي والعلاجي؛ فالمجتمع السليم هو تفاعل أفراد أصحاء، لا تعيق حالتهم الجسدية أو النفسية قدرتهم على الإنتاج المثمر والتفاعل البناء. ولا تسبب إيذاءهم لأنفسهم أو إيذاء الآخرين نتيجة تهيؤات عابرة أو تشوهات نفسية كامنة.
وفي حين أن الصحة البدنية العلاجية والوقائية ارتقت كثيرًا وصار المعتاد أن يسارع أي فرد يشعر بأعراض مرضية إلى أقرب مستشفى للعلاج، إلا أن الصحة النفسية والاضطرابات السلوكية والذهنية فوضعها يختلف. فهي ما زالت غالبًا غير مفهومة وغير متقبلة وقلة من يعترفون بها كحالات مرضية تحتاج إلى علاج من طبيب نفسي أو طبيب أعصاب متخصص، وليست عيبًا نخفيه ونرفض الاعتراف به ونتركه يتفاقم. بينما حتى عهد قريب كان التخلف الذهني والاعاقة الطارئة والاضطرابات السلوكية الناتجة عن تأزم الحالة النفسية يعد كله جنونًا، ويحبس المجنون أو المريض النفسي والعصبي لحماية الناس من احتمال ايذائه لهم، بل حتى الآن ما زال هناك من يختزلون تشخيص أعراض المرض البدني والنفسي بالتعرض للعين والسحر والتلبس بالجن، ويلجؤون إلى المشعوذين في طلب العلاج البدني والنفسي، وكثيرًا ما ينتهي علاج الشعوذة بمآسٍ محزنة.
ويكفي أن نرى ندوب الكي المتكرر على أجساد أطفال أبرياء، أو نقرأ إحصائيات بتر أطراف مرضى السكر أقنعتهم بنصائح جهلاء أكَّدوا أنهم لا يحتاجون إلى تناول حبوب المنظم أو استمرار إبر الإنسولين، لنتأكَّد أن القضية ليست جهلاً فرديًا، بل قضية مجتمعية تحتاج إلى توعية مجتمعية عامة.
المرض البدني تسببه مسببات عضوية سواء كانت جينية وراثية أو ميكروبات خارجية، أما المرض النفسي فهو أكثر تعقيدًا، يسببه أحيانًا التعرض لأحداث صادمة كالحروب والإنتهاكات البدنية في الطفولة، أو تعاطي مواد تؤثر في سلامة الإحساس والإدراك كالمخدرات، وتسببه في حالات أخرى الموروثات العائلية الجينية، وتسببه في أحيان أكثر الضغوط النفسية التي تحاصر الفرد منا عبر جوانب الحياة المجتمعية أو العائلية أو الوظيفية، ومتطلبات الآخرين منا، ومتطلباتنا من أنفسنا حين تعتصرنا بأشد مما نستطيع تحمله، فتبدأ تفاعلاتنا وردود الفعل عندنا في التخبط. وأول العلاج هو رفع مسببات الضغط النفسي لكي ينعتق الفرد من تراكم تأثيره، والأهم هو تفهم كونه يعاني حالة مرضية ومن حقوق الإنسان أن يتوافر له التفهم وسبل العلاج والدواء الناجع.
في ذات الوقت الذي يؤكد فيه المجتمع الحضاري حق كل إنسان في الصحة والحصول على العلاج الناجع، فإن من حق الإنسان أيضًا أن يجد الحماية من التعرض لأمراض الآخرين.
والأمر واضح في حالات العدوى والأوبئة، ولكنه مستتر في حالة الأمراض النفسية وبالذات المرتبطة بالعدوان. كم من متسوق أو طالب أو عابر برئ راح ضحية إطلاق نار متعمد أو طعن بالسلاح الأبيض من معتل نفسي؟. وكم من إرهابي انضم لتنظيم قاتل كانت بذرة اجتذابه كامنة منذ الطفولة بجذور ميول سوسيوباثية وسايكوباثية؟ وكم من رئيس أو مستشار دمر مواطنيه بحروب وقرارات منشؤها استعداده شخصيًا لجنون العظمة البارانويا؟ مثل هؤلاء مرضى يحتاجون لعلاج بعد الإيقاف.
بل إن بعضهم غير قابل للعلاج والبقاء حيث يهدد سلامة المجتمع.