د. حسن بن فهد الهويمل
لم يكن أحدٌ يتوقَّع هذا المصير المذهل لأمتنا العربية. ولم يكن أحدٌ يعترف بأنه شريكٌ فاعلٌ في صنع هذا المصير؛ إذ كل إنسان خطَّاء.
الله وحده الذي يعلم خائنة الأعين, وما تخفي الصدور, وهو وحده الذي لا يُسأل عما يفعل.
سيأتي اليتيمُ يسائل مَن قتل والديه. وتأتي الأرملة تمشي:- (وقد أثقل الإملاق ممشاها) تقاضي مَن قتل زوجها, وشرّد أهلها, ويأتي المشرَّد يحاسب مَن شرده:- {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
دول الاستكبار صنعت ذلك كلَّه, أو بعضه من خلال (اللعب) السياسية الكبرى, رسمت (الخرائط)، واتفقت مصالحها على التدمير, والاستغلال, وإرجاع (الأمة العربية) قَسْراً إلى مربعاتها الأولى.
المغفلون, والعملاء من أبنائها تسلموا (السيناريوهات), والتزموا بالتعليمات, ونفَّذوا الحركات, وهيؤوا الأجواء الملائمة لأداء أدوارهم.
ما لا يجوز تجاهله تمهيد الطريق لتنفيذ هذه الخطط المدمرة؛ إذ لا بد من أرضية مناسبة, وأجواء ملائمة.
لقد خرج الاستعمار التقليدي بمناديبه وثكناته بإرادة الشعوب. وتلك لطمة لم يتجاوزها الاستعمار, ولم تهن عليه؛ ومن ثم فكر, وقدر, وصنع استعماراً ينساب كالخدر في مفاصل الأمة, لا يشعر به إلا العالمون.
استعمار المكر, والخديعة, والتربص.. استعمار الفكر قبل الأرض.
لقد جاء بـ(الحكومات العسكرية) التي أخْلَتْ الثغور, وملأت القصور, وأخرست اللسان, وشحذت السنان.
ثم تجاوزت ذلك إلى تفريق الأمة إلى أحزاب, وطوائف. كل حزب يصفّي خصمه بقوة العدو, ومال الشعب.
لقد فرَّقوا ولاءاتهم, وكانوا شيعاً. ومن قبل مُزِّقت الأرض, وصُنِّمت الحدود, وكُرِّست القُطْرِية؛ ومن ثم لم يكن هناك وطن واحد, ولا عقيدة واحدة.
هذه الأجواء صنعت (القابلية للاستعمار الحديث) بصورته الجديدة, واستبعدت بوادر الحلول السلمية.
شعوب تبكي على أيامها الخوالي, وقادتها المخَوَّنين, ووحدتها الممزقة:-
(رُبَّ يَوْمٍ بَكَيْتُ مِنْه فَلَمَّا ... كُنْتُ فِي غَيْرِه بَكَيْتُ عَلَيْهِ).
نعم، تحن الشعوب إلى حكامها المتسلطين؛ لأنها ذاقت بالفُرقة الويلات, وتجرّعت بسقوط الأنظمة المرارات, وأهلكت الأحداثُ الحرث, والنسل, ولم تعد هناك بوارق أمل:- و(مَنْ مَاتَ وليس فِي رَقَبَتِه بَيْعَةٌ ماتَ مِيتَةً جاهلية).
الصراع إكسير الحياة. هذه قضية مسلَّمة, ولا أحد يستبعد الصراع الأزلي بين الحق والباطل.
غير أن ما يجري على مسرح الحياة لا يعد من الصراع المتوقع, إنه قتل وحشي, وهمجية متوحشة. لا يدري القاتل لماذا قَتَل, ولا المقتول لماذا قُتِل. وهذا عين ما أخبر به من لا ينطق عن الهوى, إنه إرهاصات الساعة, وأشراطها.
(الحضارات) بين صراع مُدَمِّر, وحوار مُؤَلِّف, ومُنَمٍّ, وكل الأطراف تعي رسالتها, وأهدافها, وتعرف سنن الكر, والفر, والجزر, والمد. ولها حساباتها. لا يمكن أن نعد ما يجري في عالمنا من سنن التداول والتدافع.
لا شيء أخطر على الأمة من الفهم السَّقِيم, الذي يعمق المآسي, ويديم زمن التيه.
الأمة بحاجة إلى مفكرين, يوقفون الزحف إلى الهاوية، ثم يفكرون برحلة العودة إلى جادة الصواب.
المقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة. تلك مُسَلَّمة, لا ينكرها إلا بادي الرَّأي. وما لم تحاسب الأمة نفسها بمنطق العقل, والعلم, والتجربة طال عليها الأمد, وخرجت من متن التاريخ إلى هامشه.
هذا المصير المشؤوم ما هو من الظالمين ببعيد.
ما يُمارس على أرض العروبة ظُلمٌ, وعدوان. والله حرَّم الظلم على نفسه, وجعله بين خلقه محرماً.
وكل من ركن إلى قُوَّته, وظلم فإنه سَيُلاقي مصيراً مُظْلماً طال الزمن, أو قصر.
لقد تجرع الغرب ويلات الحربين العالميتين, وكان منتج العقل والتجربة ألا تتكرر المآسي. بالحرب تخسر الأمم قيماً: مادية, ومعنوية. والمنتصر فيها أول الخاسرين:-
(ومَا الحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُم, وذُقْتُم).
نسأل الله لمقدساتنا, وقادتنا, وعلمائنا, ولحمتنا الوطنية المزيد من التوفيق, والسلامة من مضلات الفتن.
مؤامرات, ومؤتمرات, كلها تحاك, وتدار للوقيعة ببلد يدفع بالتي هي أحسن, بلد متصالح مع نفسه, وقبيله. ومراده الإصلاح ما استطاع:-
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون}.