زينب بنت علي بن حسين فواز، تاريخ حافل بالكفاح، عذب التجارب، حلو القطاف، إرادة جبارة لا تُقهر، وذات عصامية لا تستسلم، مسيرة طويلة مديدة من إقدام وإصرار، ثم انتصار عظيم نقشه التاريخ على صفحاته بحروف من نور مشعة متوهجة مضيئة، تقول الأديبة ناديا الجردي نويهض في كتابها الرائد: «نساء من بلادي»: (إذا كان من رمز للانتصار على الذات في مسيرة الكلمة العربية خلال هذين القرنين من عمر الزمن فمما لا شك فيه أن زينب فواز المعروفة بالعاملية هي خير تجسيد لهذا الزمن).
كانت هذه الرائدة من شهيرات نساء عصرها، فهي أديبة وشاعرة مفلقة، وكانت مبدعة، وُلدت في قرية صغيرة تابعة لصيدا تسمى «تبنين»، وذلك عام 1860م، وعاشت وسط أسرة فقيرة تعاني شظف العيش، فأخذت تعمل في خدمة دار علي بك الأسعد أحد وجهاء جبل عامل في ذلك الوقت السالف، وهناك بدت عليها إمارات الذكاء، ومخايل النجابة، وسمات النباهة، حيث ترهف السمع لعلوم الرجال وأحاديثهم، ثم تعيدها عن ظهر قلب، مما شد ولفت انتباه سيدتها فاطمة الأسعد إليها، فغذتها بشيء غير قليل من أدبها وعلمها وخبراتها ومعارفها.
ولما بلغت هذه العظيمة الرائدة السنة العاشرة من سني عمرها الزاخرة بالعطاء والنضال والكفاح انتقلت مع أفراد عائلتها إلى الإسكندرية وشرعت في تعلم أصول القراءة والكتابة على يدي أستاذها محمد شبلي، وتبدأ حياتها الأدبية الحقيقية المشرقة، وذلك حينما ضحكت لها الأقدار، وابتهجت لها الأيام، فتعرفت بالأستاذ حسن حسني الطويراني صاحب مجلة النيل، وهو شاعر من أصل تركي يتقن الإنشاء ونظم الشعر باللغتين العربية والتركية، فنهلت من معينه، وغرقت من بحره، فبرعت في الكتابة وبرزت في الشعر.
وأخذت عنه إلى جانب ما سبق العلوم التالية، الصرف والبيان والعروض والتاريخ، وتتلمذت على يدي الأستاذ محيي الدين النبهاني وأخذت عنه الإنشاء والنحو، ولما اشتد عودها أخذت تقول الشعر فتفننت فيه وأجادت، وخلبت القلوب والأسماع، وخلفت من نتاجها الشعري ديوانًا كبيرًا تتزين به رفوف المكتبات العربية، ومن رائق شعرها وشائقة قولها:
للشرق فضل في البرية إنه
يأتي الوجود بكل حسن معجب
والغرب أظلم ما يكون لأننا
نشقى بفرقة شمسنا في المغرب
ولها شعر غزلي رقيق سلسل يحكي نبضات قلب عاشق، لا يعرف إلا الوجد والهيام والصبابة بمن يعشق ويحب ويهوى، وهو شعر عذري عفيف لا يخرج من دائرة الحشمة والعفة، ويمثل ما تملكه هذه الشاعرة الفذة من فضائل سامية، وشمائل عظيمة، وخصال حميدة، فكأني بها جاءت لتحكي قصة حب ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، فالأدب يعيد نفسه، ومن رقيق غزلها قولها:
ما زال قلبي مدى الأيام خفاقًا
وبدء حسنك يجلو العين إشراقًا
تكون الجسم منه من سنا قمر
حتى تكامل إلماعًا وابناقًا
نور تجلى على الأرواح منفردًا
حتى جلى منه في الأحشاء إحداقًا
سري غرامك في قلبي وفي جسدي
لذاك أثر اسقامًا واخراقًا
كلي بك مشغول ومرتبط
فلست أشكو إلى لقياك أشواقًا
وأصبح القلب من وجد يذويه
نور الشبيبة تهيامًا وإشفاقًا
ونشرت أديبتنا -عليها رحمة الله تعالى- مقالات في الصحف والمجلات، وهي مقالات هادفة قيمة، تدل على نضج فكري، ووعي عقلي، فكتبت في مجلة النيل وأنيس الجليس وغيرهما، وأما الصحف فقد نشرت في جريدة لسان الحال البيروتية والبستان، والفتاة والهلال والمهندس والمقتطف واللواء والمؤيد والأهالي وغيرها من الصحف، وهي أول صوت نسائي يرتفع قبل مي زيادة وعاشئة التيمورية، وهذه المقالات تدل على ضلاعتها في العلوم الأدبية، والعلوم الاجتماعية، وحيث إنها كانت من أسرع المطالبات بحقوق النساء ورفع مستواهن العلمي والثقافي والاجتماعي، وهذا ما دعاها إلى تأليف كتاب سمته «الرسائل الزينبية»، شددت فيه إلى المطالبة بحقوق المرأة.
وجاء في كتاب إعلام النساء (2/ 84) ما نصه: (حذت في بعض مقالاتها حذو نساء الغرب المتطرفات في القضية النسائية، فطالبت بمنح المرأة كل ما يتعاطاه الرجل من الأعمال الاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها).
وهي صاحبة جدل وحجة ومنطق في إبداء الرأي والدفاع عنه، والتدليل له بما يقوى جانبه، ويظهر صوابه، فقد كتبت في العدد (151) من صحيفة النيل بتاريخ 18 ذي الحجة سنة 1309هـ مقالة تحت عنوان «الإنصاف»، ردت بها على «هنا كوراني» فقالت: (قالت لبنان الغراء تحت عنوان.. المرأة والسياسة» لحضرة الأديبة الفاضلة هنا كوراني، فهي وذمة الحق غاية في المنى وأعجوبة في رقة المعنى، إلا أنها جارت في حكمها، وشددت النكير على بنات جنسها، وضربت عليهن الحجر المنزلي، وعملت على منعهن من التداخل في كل الأمور الخارجية المختصة بأعمال الرجال من مثل قول حضرتها: إن المرأة لجهلها شرف مقامها تظن أن مساواتها بالرجال لا تتم إلا بعملها لما يعمله، وأن المرأة لا تقدر على عمل خارجي مع أداء واجبات ما يلزم لخدمة الزوج والأولاد،.. وما من أمة فشا فيها داء الكسل وسرت إليها علة الخمول إلا ودمرتها وهدمت أركان عزمها، ودكت حصون تمدنها، ومما يؤيد لنا ذلك هو ما ظهر لنا من تقدم الغرب على الشرق في هذا العصر حينما عولج أهله، وشفي جسمهم من داء الكسل والخمول، فازدهى عصرهن على جميع العصور، وفاق كل الدهور، إلى حد أنه صار النساء فيه يبارين الرجال ويشاركنهم في الأعمال، وحيث قد أجمع السواد الأعظم منهم على أن الرجل والمرأة متساويان بالمنزلة العقلية، وعضوان في جسم الهيئة الاجتماعية، لا غنية لأحدهما عن الآخر، فما المانع إذًا من اشتراك المرأة في أعمال الرجال، وتعاطيها الأشغال في الدوائر السياسية وغيرها متى كانت جديرة تؤدي ما ندبت إليه، وإلا فما فائدة تعلم المرأة الغربية جميع العلوم التي يتعلمها الرجال من فلسفة وحكمة ورياضة وهندسة وتدرس القوانين السياسية إذا كانت لم تعمل بمقتضاها وتخدم النوع البشري وتعد من أعضاء الهيئة الرئيسة لأنها ما خلقت لكي لا تخرج عن دائرتها المنزلية، وأن لا تتداخل فيما يختص بالأعمال الخارجية سوى ما يلزم من تدبير المنزل، وتربية الأولاد والطبخ والعجن وما أشبه ذلك فقط كما تعتقد حضرة الفاضلة، لا لعمري بل عوائدهن تسمح لهن بأن يكتسبن كل فن من الفنون ويعملن به، وأما تدبير المنزل وتربية الأولاد فإنها ملكة في النساء طبيعية غريزية لا يلزم لها درس ولا تعليم ولا سن قوانين ولا قواعد، بل من أراد أن يعرف قوانينها يأخذها عنهن بدون أن يرى كبير عناء سواء كن في حالة التوحش أم لا، حتى إن المتوحشات من النساء يدبرن منازلهن ويربين أولادهن بقر الإمكان).
والأديبة زينب العاملية أحيت صالون «سكينة بنت الحسين» الأدبي بعد أن عفا عليه الزمان وأكل وشرب، فتجلس خلف الحجاب وتستمع إلى الشعراء وهم ينشدون الأشعار، ويتطارحون القريض، ويتناقشون ويتفاضلون ويتراجزون، وكان زوجها الأديب «أديب نظمي» رسولًا بينهم وبينها. وعن قصة زواجها بهذا الأديب، وحرصه على توفير الأجواء الأدبية لهذه الأديبة المتألقة الفذة، تقول الأديبة ناديا الجردي نويهض في كتابها «نساء من بلادي» ص (201-202): (كان بين الأدباء الذين أعبجوا بكتابتها وأسلوبها الصحفي «أديب نظمي الطناحي» - رئيس تحرير صحيفة الشام - وهو المصري ثم الدمشقي، فأخذا يتراسلان حتى انتهى بهما الأمر إلى الزواج، وقد تم عقد القرآن في الإسكندرية في منزل أستاذها حسن حسني الطويراني، ثم حضرت إلى سوريا وهي زوجته شرعًا، وكان نظمي مقيمًا في حوران في قرية مسعدة، وبقيت هناك سنة ضاقت بعدها بقساواة الحياة وانقطاعها عن مركز الفكر والنشر في القاهرة، ولم تلبث أن انتقلت إلى دمشق ظنًا منها أن الحياة فيها أسهل أو أكثر انفتاحًا على الأجواء الأدبية، وقد نقل زوجها الأستاذ نظمي الأجواء الأدبية إلى داره، وكان المجلس الأدبي ينعقد كل أسبوع وكان يحضره عدد كبير من أدباء وشعراء دمشق والوافدين عليها من البلدان العربية، أمثال: حسن الروماني، عبدالقادر بدران، سليم غنحوري، رشيد الحشيمي، حسن حسني، عمر نحولي، صالح وهبي البغدادي، وأسعد الحمصي وغيرهم، وكان هؤلاء الشعراء يتطارحون الشعراء نظمًا وتشطيرًا ويتناقشون في قضايا الأدب.
وكان زوجها أديب نظمي رسولًا بين الحاضرين وبينها، إذ كانت تجلس خلف ستار قريب أو في غرفة مجاورة.
وفي دمشق عانت زينب من وجودها بين ضرائر ثلاث رغم أنهن كن دونها ثقافة وعلمًا، وبدأت الغيرة تفتك بأعصابها ففضلت أن تفترق عن زوجها وطلبت الطلاق منه، وعادت إلى مصر وتركته يعاني ألم بعادها، وحين سأله أحد أصدقائه إذا صدف أن تشاجر مع زينب أو ضربها، أجاب شعرًا لا أحلى ولا أرق:
رأيت أناسًا يضربون نساءهم
فشلت يميني يوم أضرب زينبًا
فزينب شمس والنساء كواكب
إذا طلعت لم تبق منهم كوكبًا
هذا وقد تركت هذه الأديبة الصاعدة آثارًا أدبية وتاريخية، فقد ألقت ثلاث روايات: رواية الملك كورش وحسن العواقب والهوى والوفاء. فأما رواية الملك كورش فهي من أحسن الروايات مغزى ومعنى غرامية تاريخية في قرن من الزمان صورت فيها قبح عبادة المجوس، وحسن عبادة الواحد الأحد أبدع تصوير، وبينت فيها سقوط دولة الماديين، وحلول دولة الفرس محلها، واستيلاء الملك كورش عليها، وعلى مملكتي نينوى وبابل، وانقراض هاتين المملكتين العظيمتين واندماجهما في طي مملكة فارس.
وفي رواية حسن العواقب مثلت بها عادات وطبائع بعض عشائر جبل عامل في القرن الغابر، فوصفتها بالشجاعة والشهامة.
وأهم كتبها الدرر المنثور في طبقات ربات الخدور، ترجمت فيه لشهيرات النساء في العالم برغم اختلاف أجناسهن ومللهن.
ولها كتب أخرى لم تطبع مثل كتاب (مدارك الكمال في تراجم الرجال)، وكتاب الجوهر النضيد في مآثر الملك الحميد.
وتوفيت زينب العاملية بعد تاريخ حي حافل بالعلم والفكر والبحث والدرس، وكانت وفاتها في القاهرة، في 20 صفر 1332هـ 19 كانون الثاني 1914م، ونرثيها بقصيدتها الصادقة المؤثرة التي رثت بها أخاها محمدًا سنة 1903م، وفيها تقول:
مصاب عظيم الوقع في النفس هائل
وخطب جسيم الصدع للقلب غائل
سأبكيك ما الأطيار تألف وكرها
وما صدحت بين الصدور البلابل
مصادر الترجمة:
- إعلام النساء.
- تراجم أعلام النساء، ص (171-172).
- معجم أعلام النساء، ص (98).
- نساء من بلادي.
** **
حنان بنت عبدالعزيز آل سيف - بنت الأعشى
عنوان التواصل: ص.ب 54753 الرياض 11524
البريد الإلكتروني: hanan.alsaif@hotmail.com