م. بدر بن ناصر الحمدان
لدي قناعة شخصية أن الأمس لم يكن أجمل من اليوم، ولا مُدنه أكثر براءة من مُدن اليوم، ولم يكن ناسه أفضل من الناس اليوم، حتى وإن كانت الروايات القادمة من الزمن الماضي قد تبدو في ظاهرها جميلة ومرجعًا مثاليًا لأسلوب الحياة وما يجب أن تكون عليه علاقات البشر، ما حدث كان مجرد نمذجة اجتماعية مكتسبة، فرضتها عدة اعتبارات، وطبقتّ بشكل قسري ولم تكن فطرة طبيعية أو وازعًا داخليًا يمكن المزايدة به على ما هم عليه الناس اليوم.
الحاجة إلى الأمن، وموارد المياه، والزراعة، ومقومات الحياة الأخرى جعل كثيرًا من القرى والمدن تنشأ بشكل مركزي متلاصق ومتقارب، أظهر مجتمعاتها العمرانية على أنها نسيج عمراني ومعماري متجانس، وانعكاس لترابط مجتمعة وطبيعة علاقات الإنسانية المثالية والنقية، وهذا في -رأيي- مفهوم يحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر، إذ إن اقتصاديات العمران التي كانت ضعيفة وتعاني من شح الموارد هي من صنع هذا النموذج الاجتماعي كنتيجة حتمية لاحتياج الإِنسان، ولم تكن مرجعيتها أن ذلك المجتمع كان أكثر اندماجًا مما نحن عليه اليوم، والدليل على ذلك أنه بمجرد تحسن الحالة الاقتصادية للفرد والمجتمع، وتوفر الخدمات اللوجيستية، انفرد الناس بحياتهم، وتمردوا على كل تلك القيود المجتمعية التي منعتهم من ممارسة الحياة بطبيعتها طوال حقبة مرّت.
على سبيل المثال، كان يُنظر للمنزل الكبير الذي تقطنه أكثر من عائلة على أنه نموذج للترابط الاجتماعي الفطري، والرغبة في التعايش المشترك، بينما الأمر ليس كذلك، فالدافع الرئيس وراء ذلك كان بالدرجة الأولى الاحتياج للمأوى والسكن والتكامل اللوجيستي وذلك لعدم قدرة العائلة الواحدة على الاستقلالية المكانية وتوفير متطلباتها المعيشية، وربما تكون في أحيان أخرى استجابة للأعراف (المتطرفة) التي تمارس التحكم في الحياة الخاصة وتفاصيلها، والوصاية عليها، لدرجة أن مجرد التفكير في الخروج من كنف ذلك البيت الكبير بمنزلة التمرد والعصيان الذي لا يغتفر.
إجبارية العيش المشترك في حيز عمراني ضيق سواء كان ذلك بمقياس المنزل أم الحي أم المدينة صنع مجموعة من الضوابط في علاقة الإنسان بالآخر، جزء منها كان عقلانيًا ومبنيًا على مصادر شرعية ولا مجال لمناقشتها أو الخوض فيها، وجزءًا آخر كان مجرد خرافة اجتماعية من بناء أولئك الذين كانوا يسيرون تلك الحياة البائسة من أجل توفير أدوات تمكّنهم من السيطرة على الآخرين.
مدن الأمس سلبت إِنسانها كثيرًا من الحياة، وأفقدته خصوصيته الاجتماعية، ومارست الوصاية على حريته الشخصية، وأبقته حبيسًا لعادات وتقاليد شكلت في كثير منها إطارًا إقصائيًا غير مبرر، هذا ليس تجنيًا ولكنها حقيقة دائمًا ما نتجنب الخوض فيها علنًا، بينما نتداولها في أروقتنا الخاصة، ونسمعها على لسان من تبقى من ذلك الزمن الصعب، حينما يقارن حياته بين الأمس واليوم.
أنا لا ألقى اللوم جزافًا على ذلك النظام الاجتماعي والعمراني الذي كان سائدًا ويحكم حياة الناس آنذاك، وأتفهم مبرراته واعتباراته التي كانت انعكاسًا للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي استوجبت بناء منظومة حياة أكثر صرامة وتعقيدًا من أجل كرامة العيش ومواجهة التحديات وخوض معركة البقاء، ولكن هذا لا يُبرر أبدًا القول إن الأمس كان أجمل من اليوم، بتلك الصورة المطلقة التي يتداولها الناس أينما جرّتهم عربة التاريخ، هذا إجحاف بحق حضارة الإنسان الجديد، فذلك الأمس الذي نتغنى به، لو عاد لما استطعنا أن نتحمل العيش فيه يومًا واحدًا.
خلاصة القول: إنسان اليوم قد تفوق على إنسان الأمس.