د. إبراهيم بن عبدالله المطرف
جاءت مقالتي السابقة تحت عنوان «تفعيل الدبلوماسية السعودية الناعمة» ببعض التواصل من زملاء في المجال الأكاديمي والثقافي والإعلامي، الذي كان في معظمه متوافقًا ومؤيدًا للطرح المتعلق بحاجة الوطن لـ»هيئة للدبلوماسية الناعمة»؛ هو ما جعل الكاتب يعود ليكتب في الشأن نفسه، ومن زاوية أخرى هذه المرة، يعرض فيها كيف يمكن لمبادرات سعودية أن تعطي «ثمارًا» إيجابية على المستوى الإقليمي والدولي، ثمارًا تعزز مكانة المملكة، وتحسِّن من صورتها.
فتوازيًا مع ما تقوم به المملكة من إصلاحات داخلية، تتماشى وتطلعات المواطنين في بلوغ أهداف الوحدة الوطنية من جهة، وبلوغ التقدم والتطور الاقتصادي والاجتماعي من جهة أخرى، قامت المملكة من منطلق وعيها بدورها الإنساني والمجتمعي الدولي، ونتيجة للمكانة التي تحتلها على المستويات الإقليمية والدولية، بعدد من الإصلاحات التي تمس العالم بأسره، بدوله وشعوبه، ومن خلال «فكر وطني واعٍ» بالإقليم وبالمنطقة وبالعالم، نتج منه العديد من المشاريع والمبادرات المجتمعية المميزة.
ونشير في هذه المقالة إلى ثلاث نماذج لمشاريع دبلوماسية سعودية ناعمة، ممثلة في مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للحوار بين الأديان والحضارات والثقافات، والمركز الدولي لمحاربة الإرهاب، ومركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية.
ففيما يخص مبادرة الحوار بين الأديان والحضارات والثقافات فقد شرف الله هذه البلاد -حفظها الله من كل مكروه- بنزول آخر الديانات السماوية، الديانة التي تدعو إلى تكريم الإنسان، دون نظر إلى دينه أو جنسه أو لونه أو لغته؛ إذ لا يكون المسلم مسلمًا حقًّا قبل تسليمه بالديانات الأخرى، ولا يكون المسلم سليم العقيدة دون اعتراف بأنبياء الآخرين؛ فهم أنبياء نصلي ونسلم عليهم في كل مناسبة.
فالاختلاف بين البشر مدعاة للتعاون والتآلف، لا مجلبة للصدام والتنافر؛ فالناس جميعًا خُلقوا من نفس واحدة، وتكريم الإنسان أصل من أصول الإسلام الثابتة، بنصوص عدة في القرآن الكريم، وفي أحاديث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أما حق الناس في الاختلاف فهو من مبادئ ديننا الحنيف؛ إذ جاء في الآية الكريمة بعد بسم الله الرحمن الرحيم {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} صدق الله العظيم. أما الدعوة إلى التعاون والحوار فهي تكليف شرعي، بأن يمد المسلمون أيديهم إلى غيرهم من الشعوب بالسلام والأمن؛ إذ تقول الآية الكريمة بعد بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} صدق الله العظيم.
وتمثل قضية الحوار اليوم قضية من أبرز وأهم القضايا المطروحة على عالمنا المعاصر، بل إنها من أكثر القضايا إلحاحًا على الضمير العالمي، وأكثرها استدعاء للعمل الجاد والأمين، حشدًا لجهود المخلصين المحبين للسلام، والساعين إلى تعزيز قيم الحوار والتواصل، والتفاهم والتقارب، ونبذ الكراهية والعنف والتعصب.
وتنظر المملكة إلى الحوار بين الأديان السماوية والثقافات والحضارات على أنه يمثل دعمًا لنشر ثقافة الحوار العالمي، ويؤدي إلى قبول الآخر، ويعزز التعايش السلمي، ويفعّل القيم الدينية المشتركة، ويسعى للقضاء على التعصب الديني والتطرف بأنواعه.
ومن هذا المنطلق جاء مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان، الذي افتُتح في العاصمة النمساوية فيينا، في نوفمبر 2012، كنداء من الملك عبدالله -رحمه الله- للمجتمع الدولي، نداء يعكس مبادرة إنسانية جادة للسلام والتعايش والتآلف.
وينظر إلى ذلك النداء الذي توجَّه به الملك عبدالله لدول العالم وشعوبها، بمختلف دياناتها وثقافاتها ومذاهبها.. ينظر إليه على أنه مبادرة إنسانية جادة، للسلام والتعايش والاحترام والمحبة والتآلف، وثمرة لجهد طويل ومتصل، قام به الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله-، بدءًا من مؤتمر مكة المكرمة، مرورًا بمؤتمر مدريد، ومنه إلى مؤتمر نيويورك، وآخر في جنيف، وانتهاء بمؤتمر العاصمة النمساوية فيينا.
وتطلع المجتمع الدولي إلى أن يجسد المركز انطلاقة تاريخية نحو تشجيع حوار إنساني هادف ومسؤول، يستند إلى تعزيز القواسم المشتركة بين أتباع الأديان التي هي «لب» الرسائل السماوية والثقافات الإنسانية، وباعث لحوارات مستنيرة، تتناول القضايا التي تشغل اهتمامات المجتمعات الإنسانية قاطبة، التي كانت في كثير من الأحيان سببًا في حروب مكلفة، وصراعات دامية، وجرائم بشعة.
وفيما يخص محاربة الإرهاب فقد تبنت المملكة الإجراءات القانونية في محاكمة المتهمين بارتكاب الجرائم الإرهابية، وتعددت جهودها في التعاون في محاربة الإرهاب على المستويَيْن الإقليمي والدولي؛ وهو ما عزز من جهود التنسيق، والاستفادة من التجارب السعودية في تطوير الآليات التي ساعدت مع الوقت على تجفيف منابع التمويل الموجَّه لدعم الجماعات الإرهابية، ومواجهتها على كل الأصعدة والمستويات، فضلاً عن رفضها ونبذها بشكل واضح وشفاف من لدن المجتمع الدولي بأسره.
وخير مثال على ما قامت به المملكة في مجال مكافحة الإرهاب على المستوى الدولي هو دعوتها لإنشاء مركز دولي لتبادل المعلومات والخبرات بين الدول، وإيجاد قاعدة بيانات ومعلومات أمنية واستخباراتية، تستفيد منها كل الجهات المعنية بمكافحة الإرهاب في مختلف دول العالم. ولأن العالم يواجه اليوم العديد من التحديات التي تؤثر في حياة الإنسان وعيشه الكريم، ومع تعدد هذه الأحداث، مثل الكوارث الطبيعية والحروب، والظروف الصعبة التي تعاني منها بعض الدول والمجتمعات في العالم، أصبح الإنسان تحت وطأة المرض والجوع، وفقدان المأوى، وانعدام فرص التعليم والرعاية الصحية.. وجاء تأسيس مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في منتصف عام 2016 كمركز سعودي مخصص للأعمال الإغاثية الإنسانية الدولية.
ويعكس المركز صورة مشرقة لما تقدمه هذه البلاد للمجتمع الدولي من جهود كبيرة، تسهم في رفع معاناة الإنسان، والمحافظة على حياته وكرامته، وذلك بالتعاون مع المنظمات والهيئات الإغاثية الدولية، وانطلاقًا من استراتيجية المركز الإغاثية، التي تهدف إلى سرعة وفاعلية الاستجابة لتقديم المساعدات خارجيًّا من خلال شراكاته الدولية.
إن المبادرات الإنسانية والمجتمعية المشار إليها بإيجاز هي مبادرات تمثل نماذج لـ»دبلوماسية سعودية ناعمة» فريدة من حيث نوعيتها، ومن حيث فائدتها للمجتمع الدولي أجمع.
ولقد ساعدت تلك النماذج بشكل مباشر وغير مباشر على تحسين صورة المملكة؛ وهو ما يؤكد أهمية العناية بموضوع «الدبلوماسية الناعمة» بشكل أكثر وأكبر مما هو عليه اليوم سعيًا لتعزيز مكانة وصورة المملكة في المنطقة والإقليم والعالم.