د.عبد الرحمن الحبيب
انتهت المحادثات العالمية للمناخ الأسبوع قبل الماضي بنتائج قليلة واتهامات كثيرة «ليضيع دمه بين القبائل» لكبرى الدول المطلقة للانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري وما ينتج عنه من جفاف وفيضانات وعواصف وحرائق وغيرها من سلبيات على البيئة والصحة والاقتصاد. كمعدل عالمي، كانت بمقدمة الدول بنسبة انبعاثات الغازات: الصين 29 %، أمريكا 14 %، الهند 7 %، روسيا 5 %، اليابان 3 %، البرازيل 2.3 %؛ فيما كانت نسبة دول الاتحاد الأوربي 10 % مقارنة مع 5 % من الدول العربية كافة (منشورات الاتحاد الأوربي، 2018).
يجتمع قادة العالم سنوياً لاتخاذ إجراءات مناسبة في بلدانهم لمكافحة تغير المناخ؛ فهل أنت راضٍ عن الجهود المبذولة لحماية البيئة في بلدك؟ كان هذا سؤال استطلاعي من مؤسسة غالوب نشرت نتائجه الأسبوع الماضي لأهم عشر دول اختارها الاستطلاع. كانت الإجابة بنعم في المقدمة: الصين (78 %)، ثم السعودية والهند (76 %). أما أقلها فكانت: كوريا الجنوبية (29 %)، روسيا (33 %)، إيران (43 %)؛ بينما كان بالوسط: كندا وألمانيا (58 %)، اليابان (49 %)، أمريكا (46 %).
بالمتوسط العام لدول العالم كان ستة من كل عشرة أشخاص راضين عن الجهود المبذولة في بلدانهم للحفاظ على البيئة، بزيادة طفيفة عن السنوات الأخيرة. لكن يختلف الرضا على نطاق واسع بين بلدان العالم؛ إذ يرتفع نسبيًا في معظم دول آسيا، خاصة في جنوب وجنوب شرق آسيا، بحوالي ثلاثة أرباع السكان؛ بينما تنخفض النسبة لحوالي أربعة من كل عشرة في أمريكا اللاتينية والجنوبية (خاصة البرازيل)، والدول السوفييتية السابقة ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
قد يبدو مفاجئاً الرضا الكبير في الهند نظراً لسجلها البيئي السيئ حسب جامعة ييل التي صنفت الهند بالمرتبة الـ177 من بين 180 دولة بمؤشر الأداء البيئي لعام 2018. كما أن تقرير منظمة الصحة العالمية أصدر قائمة 14 مدينة هندية من بين أسوأ 20 مدينة بالعالم في تلوث الهواء. لكن الحكومة الهندية أعلنت أن جهودها لتحسين البيئة من أولوياتها؛ فهي صادقت على اتفاق باريس للمناخ، ونفذت خططًا جادة لخفض انبعاثات الكربون، وتعهدت بالتخلص من المواد البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد بحلول عام 2022 (غالوب، 2018).
المعضلة هنا، أنه إذا كان الحل في استخدام الابتكارات التكنولوجية لمواءمة المصالح التجارية مع الاستدامة البيئية، فإن المناطق الأقل تقدمًا تكنولوجياً، لا تملك البنية التحتية لهذه الابتكارات، وقد تضطر للاستمرار باستثماراتها الملوثة للبيئة. الأسوأ من ذلك أن ثمة بلدانًا نامية تجتذب الاستثمار الأجنبي بسبب ضعف القوانين البيئية التي تقلل تكاليف الأعمال التجارية؛ وهي ما صار يعرف باسم «ملاذ التلوث» على غرار الملاذات الضريبية.
في ظل هذه الظروف، قد تجد الحكومات صعوبة في تجاوز فكرة أن حماية البيئة تتعارض مع التنمية الاقتصادية. أبرز مثالين متناقضين هما الهند والبرازيل. في الهند، ربطت الحكومة جهود حماية البيئة برفاهية السكان من خلال اتخاذ خطوات جادة للتصدي للتحديات البيئية الهائلة للبلاد. على النقيض من ذلك، تراجعت الحكومة البرازيلية عن الحماية البيئية بالآونة الأخيرة، من أجل تعزيز النمو الاقتصادي. ومع ذلك، يشير استطلاع الرضا عن جهود حماية البيئة إلى أن البرازيليين حساسون للضرر المحتمل الذي قد ينجم عن هذه التدابير، مع عواقب سياسية محتملة للحكومة وللمشرعين الذين ساندوها (تقرير غالوب).
تبدو الحالة البرازيلية نموذجية في صعوبة التوفيق بين حماية البيئة والتنمية الاقتصادية، في بلاد شاسعة تضم أغلب مساحة الأمازون (رئة العالم) ونمو اقتصادي سريع. فمثلاً الحرائق في الأمازون، أغلبها متعمدة للتوسع بالزراعة والماشية والتعدين؛ ويرى كثيرون أن ذلك يرجع لسياسات الحكومة الحالية المتهمة بالتوسع في الزراعة والتعدين متجاهلة أو منكرة أغلب التحذيرات البيئية ومهددة بالانسحاب من معاهدة باريس للمناخ بزعم تعارضها مع تنميتها الاقتصادية..
بالطبع هناك العديد من الأطروحات التي تنفي هذا التعارض، مثل أن التطور التكنولوجي والمواثيق الدولية والتوعية العالمية تؤثر بالعلاقات التجارية العالمية والمستهلك النهائي كالسوبر ماركات الكبرى التي تشترط أن تكون المنتجات الزراعية صديقة للبيئة، والتي امتدت إلى منتجات الأمازون، وقد وقّعت العديد من الاتفاقات التجارية لضمان ذلك. كما ظهرت مؤخراً الكثير من الأصوات محذرة الحكومة البرازيلية من أن طموحاتها الاقتصادية تعتمد على تجنب سمعة دولية باعتبارها منبوذة بيئياً. «ليس بالضرورة أن تكون التنمية الاقتصادية وحماية البيئة على خلاف»؛ كما كتبت ليزا فيسكي ونيت جراهام من مركز حوار البلدان الأمريكية.. فطاقة الرياح والطاقة الشمسية تنمو باطراد هناك مفيدة كلاً من الاقتصاد والبيئة، لكن السؤال الذي يطرحانه: هل سيأخذ بها الرئيس البرازيلي بولسونارو؟
تُظهر الاستطلاعات في كافة أنحاء العالم أن الناس تمنح قيادتها علامات الرضا على جهودهم لحماية البيئة في بلدانهم. ومع ذلك، فإن الأرقام العالمية تخفي الكثير من الإحباط في أنحاء مختلفة من العالم. لكن في حالات كثيرة لا يعني الرضا الشعبي عن حماية البيئة أنه فعلاً كذلك بقدر ما هو رضا عن حماية مصالحهم الاقتصادية على حساب البيئة، فتلك لا تزال أكبر معضلة تواجه حماية البيئة.. «إذا كنت تعتقد حقًا أن البيئة أقل أهمية من الاقتصاد، فحاول حبس أنفاسك وأنت تعد أموالك» (د. جاي ماكفيرسون).