إلى أوَّل من فتَقَ لساني بذكر الله -عز وجل-.
إلى من غرسَ في قلبي حبَّ القرآن الكريم وتعظيمه.
إلى من رعى النشأةَ، وقوَّم المسيرةَ، وحفَّز الهمةَ، وغرس الغرسَ ثم تعاهده وسَقَاه.
إلى رهبَّان الليل, وصوَّام النهار.
إلى من عرفناه كثير الذكر والتسبيح والتنزيه لله القهار.
إلى من ترك فينا همة باقية, وحباً للعمل في سبل الخير وسلوك الفضيلة والهدى.
إلى من تعلمتُ منه الوفاءَ وحسنَ القضاءِ.
إلى من يستحق -بعد الله تعالى- الشكر والمحامد.
إلى من رباني صغيراً, وحملني كبيراً.
حبرٌ أكتبهُ بمداد من دمٍ، يخرج من قلبٍ يعتصره الألم، إلى (أبي), من له الفضل -بعد الله- في وجودي، من ارتبطتُ به طيلة عمري، عينيَّ بعينيه، كلماتهُ بأذني, وكلماتي بأذنيه، جسدي يلامس جسده، أنفاسي تختلط بأنفاسه، وإحساسي يعانق إحساسه، حبٌّ نشأ وترعرع، حبٌّ كبر وتفرع.
ليس أشد وطأة من رؤية أبي مسجًى بلا حراك، كنت أسمع عن مغسلي الموتى, وأتساءل: يا لقساوة هذه القلوب! وفي صباح اليوم الذي سيدفن فيه أبي، استجمعت قواي, وذهبت لأتشرف بالمشاركة في تغسيله وتكفينه,وحتى أُلقي عليه النظرة الأخيرة. لأول مرة: أراه ولا يراني، أنظر إليه وهو لا ينظر إليّ, قلتُ في نفسي لعله يتحرك، ربما أنها إغماءة سيفوق منها ولا ينتبه إلى حراكها مُغسّله، ظللت أتابع أطرافه لعله يتحرك، سمعتُ كثيراً عن حالات فاقت حتى بعد دفنها، رجوت من المكفِّن ألا يشد وثاقه لئلا يؤلمه، ولئلا ترده عن الحركة إن أفاق، لم ينجح إحساسي.
نظرتُ إلى جثمانه الطاهر وهو ممدود أمام المصلين, حملناه إلى بقيع الغرقد على أكتاف المحتسبين, راقبته بعيني حتى وضعناه في الحفرة واللحد، يكاد قلبي يخرج من مكانه, ونحن نضعه على جنبه الأيمن ونحل وثاق العُقَد من عند رأسه وبطنه ورجليه, اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرى حفنات التراب تنهال عليه، لكني شعرت ببرد الرضا ولذة الإيمان بالقدر والقضاء, حينما تذكرت أنَّ الله الذي قدَّر عليه الموت, هو أرحم به من والديه وأبنائه والناس أجمعين.
أبي حَكَمَتْ فيهِ اللّيالي ولم تَزَلْ
رِماحُ المَنايا قادِراتٍ على الطّعنِ
مضَى طاهر الجثمان والنّفس والكرَى
وسُهدِ المنى والجَيبِ والذيلِ والرُّدنِ
أبي: يا من غرّستَ حُبّ الله في فؤادي، ورسّخت التوحيد عقيدة في أعماقي, يا من كنت ليَ أُماً في الحنان، ومعلماً في الأخلاق، وغيوراً في النصح والإرشاد, نصائحك كانت ولا زالت نوراً يُسَيِّر حياتي، وابتسامتك ثلجٌ يُطفئ خوفي وألمي, بحر قلبي الواسع أنتَ، وموج عقلي الدافئ أنتَ، وبياض قلبك بدرٌ في سماء نفسي، ومهما وصفتك فلن أقدر على الكمال
كنتَ -يا سيدي- معطاءً بلا حدود.
أبي أنت من علمني مَعنى الحياة, أنتَ مَن أمسكت بيدي على دروبها, أجدك معي في ضيقي, ووجدتك حولي في فرحي, وطالما وافقتني في رأيي حتى لو كنتُ على خطئي, -وذلك حتى ترضيني, أنت مُعلمي وحبيبي, دائما ترشدني إذا أخطأتُ, وتأخذ بيدي إذا تعثرتُ, فتسقيني إذا ظمئتُ, وتمسح على رأسي إذا أحسنتُ، لا تغيب عني في السفر والحضر, وتحت المطر, لا تغيب عني في الحزن والفرح، لا أفتقدك في العافية والمرض.
كنت يا أبي لي -بعد الله- السند, أنت -يا أبي- من إذا ميلتُ رأسي على صدره يعتدل لي كل مائل, كنتَ لي أوفى حبيبٍ, وأنت كذلك, ولو أحبني أهل الأرض أجمعين.
يا أيُّها الصوتُ الّذي أحببتهُ
ورأيتُ فيه هدايتي ورَشادي
لكَ في الحضورِ تلهُّفي وتودّدي
لك في الغياب محبّتي وودادي
فراقك -يا أبي- لم يكن سهلاً, فلقد تركت فراغاً كبيراً في دروب المروءات, وغياباً ضخماً في طرق الإحسان والخيرات. كنت نوراً أضاء حياتنا, وأنواراً تشرفت بها بيوتنا ومجالسنا.
كنتَ نظيف اليد, صحيح الديانة, عفيف اللسان.
كنتَ أميناً على الدين؛ قائماً بواجب النصيحة,آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.
لك تاريخ عريق فيتوثيق عرى الأخوة, وصلة الأرحام, وذوي القربى.
كنتَ وما زلتَ محفوراً محبتُك في قلوب الأبناء والأحفاد والجيران؛ لكل واحد منهم معك شأن عجيب.
كنتَ متسامحاً مع الحساد, ورزقك الله روحاً تسمو فوق كل الضغائن.
أمَّا العفو فكان لروحك عنواناً.
كنتَ باذلاً للمعروف حتى أصبح المعروف ينسب إليك.
كنتَ -ولا نزكيك على الله- مع ربك تمارس عقيدة الإحسان في كل لحظة وحين؛ كنت تعبد الله كأنك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
كنت متبعاً للسنة, مقتفياً آثار السلف الصالحين, مع حرصٍ ومتابعة لا تمل فيها ولا تكل, وثبات وحسن ثقة بربك كنت فيها مضرب المثل والتمثيل.
كنت قوياً في ثباتك وعزمك, شامخاً في مقالة الحق, جعلت القرآن والسنة هما الدليل والقائد مع أولادك وأحفادك وبنيك في مسيرة التربية والتعليم.
كنتَ تستشعر قول الله تعالى: (يا أيها الذين منوا قو أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة ..الخ), وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته), كأشد ما يكون التدبر والتفكر والاستشعار.
كانت مواقفك في طريق التربية والتزكية تحفر في سويداء القلوب أثراً لا يمكن أن يمحى أو يغيب, لقد كان لها أثر يستحوذ على المشاعر والعقول.
كانت التربية والتزكية عندك -لأولادك وبنيك- عبادة تتقرب بها إلى الله الوليِّ الحميد.
وكانت التربية في فكرك وممارستك تقوم على مراقبة الله في السر والجهر, في الغضب والرضا.
أما التربية بالقدوة فأنت ساسها وأساسها, وأنت عمودها وعمادها.
كانت الصلاة هي الميثاق والعهد الذي تقيم عليه -مع رعيتك-, صلات القرب والبعد, والغضب والرضا.
قد مشيت على آثار السالفين؛ فكان تعليم القرآن وتحفيظه عندك خياراً استراتيجياً سلكته مع جميع رعيتك وبنيك.
يُسْئل عنك المرضى, والأيتام, والفقراء, فلا يعثرون على جواب.
تسئلُ عنك زاويا المسجد النبوي؛ اين العابد الزاهد, فيكون الصمت سيد المكان, ويسئل عنك في المسجد النبوي؛ معتكفك ومصلاك. وينتظر من يرد عليه الجواب.
سألتُك مرات كثيرة -وكنت حينها تقيم في مدينة الرياض- أن تسعدنا بالإقامة الدائمة في بيت خادمك وابنك في المدينة النبوية, فكان جوابك في كل مرة: «يا عبدالله يبدو أننا سنكون في النهاية عندكم». فصدَّق الله ظنك, واستجاب دعاك, وكان ما كان ممَّا قدَّره الله؛ مرضُك وما حل بك من البلاء, ثم موتُك في المدينة (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون), ودفنك في البقيع (حيث تبذل الدعوات لأهل البقيع من كل المسلمين في كل وقت وحين). وما عند الله لك خير وأبقى.
ابتلاك الله -يا أبي- بالشدة والمرض, ولبثتَ في المرض خمس سنين, لم تشتكي ولا مرة واحدة, ولم تعترض أو حتى تتألم, لم نسمع لك صوتاً, إلا ما كنا نحسبه؛ ذكرك لله, وشكرك إياه.
يا أبتاه: نحسب أن الله -عز وجل- قد ابتلاك بالمرض ليرفعك عنده إلى المراتب العلى.
يا أبتاه: نحسب أن الله تعالى ابتلاك قعيداً في فراش المرض خمس سنين بلا حراك؛ إنما ليكفر عنك السيئات, ويرفع لك الدرجات, ويكتب لك الحسنات.
يا أبتاه: نحسن الظنَّ بالله, وأنه قدر ما قدر من المرض والبلاء؛ ليدخلك الجنة برحمته ورضوانه.
يا ابتاه: نحسن الظنَّ بالله, وأنه كتب عليك ما كتب من الشدة والتعب والألم؛ لينجيك من النار بعفوه ومغفرته.
يا ابتاه: إنَّ عظم الجزاء منْ عظم البلاء, ونرجو أن يكتب الله لك الجزاء الأوفى.
يا أبتاه: نشهدُ أنك كنتَ صابراً محتسباً؛ حيث حبست نفسك عن الجزع والسخط, وحبست لسانك عن الشكوى, وحبست جوارحك عن فعل ما ينافي الصبر, فهنيئاً لك عند الله (مقام الصابرين).
لا أنسى -قبل أكثر من عشرين سنة- يوم أسعدتني بصحبتك بالسفر إلى (مكة) -وذلك كما قلت لي- حتى استعد وأتفرغ لمسابقة الملك عبدالعزيز لحفظ القرآن الكريم, قضينا في مكة عشرة أيام, كنت توفر لي فيها كل أسباب الراحة والهدوء وصفاء البال, حتى أتفرغ للمراجعة والقراءة والمنافسة, وصار ما كنتَ ترجوه من الفوز والتمكين.
ولا أنسى حين تشرفتُ فصحبتك -قبل عشر سنين- في سفر إلى مدينة (الزلفي), وجلسنا سوياً أكثر من خمسة عشر يوماً, كنتَ معي والداً وأمَّا وأخاً وحبيباً وصديقاً, كنت معي رحيماً حنوناً براً كريماً, وكتبتُ فيتلك الرحلة مبحثاً فيباب (التكبير), لم أكتب مثله في تحرير المسائل وتحقيقها, وما ذاك إلا بتوفيق الله, ثم ما وفرته لي من أسباب الراحة والنعيم.
لا أنسى, ولا أنسى, ...الخ, ذكرياتٍ ضخمة, وتاريخ عتيق, مواقف أعدَّ منها ولا أعددها.
ما فكرتُ يوماً أن أكشف سري, وأدلّ على كنزي, لكنَّ لساني جرى بما حطَّ قلمي, فسرِّى المكنون الذي أبيحكموه أيها القراء؛ هو (والدي), حيث كانت أكفُّهُ ترفع بالليل والنهار إلى السماء يطلب المدد, وأنا أنام قرير العين, كان ينصب أشرعة الدعاء فيسيرها الله تبارك وتعالى بريح طيبة, فلم أشعر خلال حياتي كلها إلا بكل التسهيل واليسر والتوفيق.
يا والدي العزيز -وقد غادرتنا إلى الرفيق الأعلى-: إن حقَّك عليَّ لم أكن لأنهض به لولا أنك تنازلت بكثير منه, بل أحببت أن تقنعني بذلك عملياً فجعلت نفسك صديقي وحبيبي, وصرت تعطيني من معاني الصداقة والأخوة أكثر مما تعطيني من أوامر الأبوة, فكنتَ لي علم السعادة, وسعادة العلم, ما وجدتك يوماً إلا ضاحكاً مستبشراً, وكأن الأزهار تعلمت تفتحها منك, ونشرت عبق شذاها من أخلاقك, ولقد علمتني بلطفك ما يكون لي زاداً في حياتي, فمنك تزودت بالحماية في الدنيا من آلامها, ومنك تزودت من الدنيا بآمالها وأحلامها, ما كنت أظنُّ أني سأقول هذا السرَّ, غير أني أبوح به وأعلنه, وقد حضر الموت, وبقيت الذكريات.
يا والدي: اسمح لي أن أقف وقفة إجلال وإكبار, ووفاء واستذكار, وترحم واستغفار, وفاءً لما تفضلت به عليَّ بأولى ما تصرف إليه الهمة من الأدب والتربية والتوجيه والإحسان والإرشاد وتعليم القرآن, فإن لك عليَّ أيادي سابغة أعد منها ولا أعددها, كم حملت الهمَّ عني عندما كلت يميني, ولكم آزرتني في أمر دنياي وديني.
يا أبتِ: إني أعجز عن مدحك وشكرك وبيان فضلك.
يا أبت: إني لا أكافئك إلا بالدعاء والوفاء.
وفراقِ الآباء شيءٌ عظيمٌ
ما لذكرى همومه من بَراح
كيف أنسى من كان كالبدر نوراً
قد أضاءتْ من نورهِ كلُّ ساحِ
وسراجاً إلى المَعَالي مُنِيرًا
ودليلاً إِلَى دُروب النجاحِ
كيف أنسى من كان حبّي وقلبي
وحياتي وجنّتي وارتِيَاحي
كان في ليلنا سراجاً منيراً
فتوارى بنوره في الصباح
قد سما للسماء والروح صارت
في جوارِ العليمِ بالأرواح
في جوارٍ أنعم به من جوارٍ
هو أهل الثناء والأمداح
أنت حيٌّ أراك في كل دربٍ
من دروبي وحَيثما كنتُ ناحي
لكَ فرضٌ وواجبٌ في صلاتي
بدعاءٍ بوافرِ الإلحاحِ
لكَ خيرُ الدعاءِ ما دمْتُ حياً
ورجائيْ في فالقِ الإصباحِ
أنت حيٌ ذكراك في كل شيء
في وصاياك في جميع النواحي
لك ذكرى كثيرة في الوصايا
كنت والله سيّد النّصّاحِ
كنت تروي قلوبَنا بالوصايا
وطبيباً مداوياً للجراحِ
ولبيباً إذا تغلّق بابٌ
جاء منك الجواب كالمفتاحِ
نادرٌ في الرجال شهمٌ كريم
حسنُ الخَلْقِ ظافرٌ بالمداحِ
فسلامٌ عليك في كل ليل
وسلام عليك كل صباحِ
وسلامٌ عليكَ ما طارَ طيرٌ
أو تغنّي بصوتهِ الصّدّاحِ
وسلامٌ عليكَ ما قامَ نَبْتٌ
واستمالتْ أغصانُهُ بالرياحِ
وسلام عليكَ ما شَعّ نورٌ
أو توارَى في غَدوةٍ أو رواحِ
وسلام عليك في كل حين
يا شبيهاً للبدر في الإيضاح
رَبِّ ألهمْه ثابت القول واجعل
حوله القبرَ من جنانٍ فِساحِ
وتقبّله صابراً وشهيداً
ورفيقاً أهلَ التقى والصلاحِ
سامحنا يا سيدي, فقد قصَّرنا في برِّك وخدمتك, سامحنا يا بهجة الفؤاد, فما وفيناك أقل حقك, سامحنا يا نور العيون, فقد عرفنا ذلك بعد فوات الأوان.لك علينا دعوات نبذلها, ووفاء نتعاهده, وصلةٌ وبرٌّ نداوم عليه, وما عند الله خير وأبقى.
اللهم إنَّ أبي فيقبضتك وبين يديك, اللهم إنَّه قد صار إليك, اللهم أرحمه واغفر له, اللهم نور قبره, وعطِّر مرقده, وبرد مضجعه, واجعله من الضاحكين المستبشرين، اللهم إني اشتقت لأبي شوقاً لا يعلمه سواك, اللهم أجمعني به وأمي وزوجتي وأولادي وإخواني وأخواتي وجميع المسلمين في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقًا, اللهم آمين, أمين, آمين.
وكتبه ليلة الجمعة (الثاني) من ربيع الآخر, من عام واحد وأربعين وأربعمائة وألف من الهجرة الشريفة
ابنك وخادمك المحزون لفراقك الراضي بقضاء الله وقدره في طيبة الطيبة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.
** **
- عبدالله بن محمد بن سليمان الجار الله