د. حمزة السالم
فقه استنباط الأحكام من النصوص الشرعية في الأمور الحادثة كان فطريًا في عهد الصحابة، بحكم معايشتهم له عليه السلام، ولتشابه وتماثل الحالات المستجدة بالحالات المنصوص عليها. وقد انتقل هذا المنهج الفقهي المعتمد على الفطرة السليمة والنظر إلى المتشابهات في استنباط الأحكام للأجيال من بعدهم. وقد ظهرت منذ القرن الأول، محاولات لتقعيد استنباط الأحكام على أساس منطقي لا تشابهي الذي يسمّى اليوم بأصول الفقه، ولكن قد ظهر مزامنًا له كذلك جدليات المتكلمين المعتمدة كليًا على المنطق.
كلا العلمين -أصول الفقه وعلم الكلام- قاما على المنطق، إلا أن منطق المتكلمين مبني على أساس خاطئ، فجدليات المتكلمين كانت حول الغيبيات. والغيب هو خط النهاية لقدرة العقل وبداية العجز المطلق له، فلا يوجد منطق صحيح يتجاوز ذلك الخط. ولذا كان الإيمان بالغيب هو أول صفات المتقين الذين يستطيعون الاهتداء بآيات الكتاب، وذلك في قوله تعالى في بداية سورة البقرة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. وبما أنه لا يوجد منطق صحيح يستطيع أن يصل إلى حمى الغيب، فقد كثر الخلط والخطأ والبيزنطية في منطق المتكلمين، كما كثر المتكلمون كنتيجة لعدم وجود نتيجة منطقية يمكن أن يصلوا إليها.
وأما منطق أصول الفقه فهو منطق أساسه صحيح. فهو يتلقّى النصوص الشرعية كما هي ويعاملها معاملة الغيبيات فلا نقاش فيها، إنما يستخدم المنطق في تنزيلها على الوقائع والحوادث الدنيوية. والحوادث الحياتية هي حوادث محكومة بسنن الله الكونية في الدنيا، والموت من الغيب. ومن السنن الكونية انضباطية المنطق طالما أنه لم يتعدّ الحدود الدنيوية، ولذا كان المنطق بشتى علومه هو قيام الحضارة التكنولوجية. وعلم أصول الفقه ما كان له أن يتعقد ويصعُب لولا تأثير مناطقة أهل الكلام عليه. ولا تجد أصوليًا نحريرًا من القدماء إلا وله صولات وجولات في علم الكلام سواء أكان ناقدًا له أو مؤيدًا، وعلى رأسهم سيد المناطقة، شيخ الإسلام ابن تيمية.
هذا التداخل بين منطق الغيبيات المتخبّط مع منطق الفقه الصحيح، ترك أثرًا عميقًا على فكر الأمة الديني والدنيوي، ما زالت الأمة تدفع ثمنه في دينها ودنياها. فالخلط بين المنطقين جعل العلماء والفقهاء يبتعدون عن المنطق الفقهي، إما خوفًا من الفتنة وإما استصعابًا له، وإما لما تلقّوه من النهي عن علم المنطق من أشياخهم. الذي أعان على هجر المنطق أيضًا هو أن قوة المنطق فطرة خلقية في الأصل، وهو في قلة من الناس، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ}، وقال: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خيرًا كَثِيرًا}، والمنطق من أنواع الحكمة. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إنّ المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد» وصدق -رحمه الله-، إلا أن استخلاص أدواته وتعليمها للناس لكي يستخدموها في تطبيقات حياتهم، هو أمر ينتفع به البليد، ومن ذلك تطبيقات دينهم، فضلاً عن دنياهم، وما قامت الحضارة الحديثة إلا على المنطق.
أذكياء الغرب ومناطقتهم، وضعوا لمجتمعاتهم الخطوط والقواعد وطرق العمل، التي تجعل غبيّهم يعمل وينتج ويبتكر ويحاج بفكر داهيتهم. وأما نحن، فمنذ قرون ما بعد الثلاثة المفضلة، حُرم أذكياؤنا وأغبياؤنا من التفكير، وجُعل هذا المنع- بحسن نيّة وسدًا للذرائع - دينًا وتقرُّبًا إلى الله.