لطالما كانت نفسي تهفو دائما إلى زيارة تونس الخضراء منذ أمد بعيد، ثم ازدادت هذه الرغبة بعد أن وقع في يدي كتاب «رحلاتي» للأخ د. حمد الزيد الذي تحدث فيه عن تونس التي زارها مرارا، وأحبها وأحب شعبها اللطيف الذي يختلف عن بقية شعوب دول المغرب العربي في طريقة التعامل مع السائح، فأُعجبت بالكتاب أيما إعجاب، مما دفعني إلى قراءته غير مرة. فعقدت العزم على زيارة تونس، وكانت آخر زيارة لي إلى هذا البلد الجميل قبل سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي أطاحت به ثورة شعبية.
وقد ارتبطت تلك الزيارة بحادث مؤلم، وهو وفاة الصديق الشاعر د.حسين علي محمد في أحد مستشفيات الرياض، ووصلني النبأ المفزع وأنا أقضي بعض الوقت على أحد شواطئ ولاية سوسة الفاتنة، فحزنت على وفاة ذلك الصديق العزيز، ولم يتسن لي للأسف حضور جنازته والصلاة عليه. رحمه الله.
وفي تلك الزيارة التي امتدت نحو 10 أيام، زرت تونس العاصمة، ومكثت بها طوال أيام الرحلة، كما زرت متحف قرطاج الوطني وجامع الزيتونة، وبعض الأماكن السياحية القريبة من العاصمة مثل: سيدي بو سعيد، وحلق الوادي، وحمام الأنف.
ونزلت في فندق يدعى نزل الهناء الدولي في شارع الحبيب بو رقيبة الذي يعد من أجمل شوارع العاصمة وأنظفها، إذ تصطف على جانبيه العديد من الفنادق الراقية والمتوسطة والمراكز التجارية ومكاتب الطيران والمكتبات والمطاعم والمقاهي المتناثرة التي تذكرك بشارع (الشانزليزيه) في باريس، وفي هذا الشارع الجميل والأنيق يوجد تمثال للمؤرخ وعالم الاجتماع ابن خلدون المولود في تونس، وقد وجدتها فرصة لالتقاط صورة تذكارية بجانبه، وفي الشارع المجاور تقع ساحة برشلونة، وهي نقطة تجمع شبكة القطارات والنقل العام في تونس، فاستقللت أحد القطارات السريعة باتجاه الجنوب الشرقي حيث تقع ولاية سوسة، وفي الطريق يمر القطار ببعض المزارع والحقول والمروج الخضراء، فيشعر الراكب وكأنه وسط حديقة فواحة بكل أنواع الأزهار والورود والرياحين.
وحينما وصلت إلى سوسة -جوهرة الساحل وثالث أكبر المدن التونسية بعد تونس العاصمة ومدينة صفاقس- نزلت في أحد فنادقها القريبة من الشاطئ، وبعد استراحة قصيرة في الفندق تجولت في شوارعها الفسيحة ذات الأشجار الباسقة، وزرت «ميناء القنطاوي» الذي يعد من أهم المعالم السياحية في سوسة، ورأيت العديد من السفن من مختلف الأحجام وهي راسية على الشاطئ، وشاهدت مختلف البضائع والصناعات والتحف التقليدية تباع في المدينة القديمة.
ومررت في طريقي إلى سوسة بولاية المنستير، وهي مدينة سياحية تتمتع بشواطئ زرقاء جميلة ورمال ذهبية، وبها مطار لا بأس به من حيث المساحة، ولاحظت أن هناك عناية بهذه الولاية؛ لأنها مسقط رأس الحبيب بورقيبة، وبها ضريحه وضريح أسرته، وهالني كثيرا منظر الضريح ذلك المبنى الفخم والمليء بالنقوش والزخارف، وتذكرت أولئك الفقراء الذين ينامون في العراء، بلا سكن ولا مأوى!
خرجت في صباح اليوم التالي قاصدا مدينة القيروان التي أسسها القائد العربي المسلم عقبة بن نافع الفهري، وزرت جامعها الكبير الذي نال شهرة واسعة، ولكني لم أطق البقاء فيها أكثر من سويعات قليلة؛ بسبب ارتفاع درجة الحرارة.
كما زرت مدينة «عين دراهم» الواقعة في أقصى الحدود مع الجزائر، وهي إحدى مدن ولاية جندوبة، ومشهورة بالمناظر الطبيعية والغابات الكثيفة، وذات أجواء جميلة في فصل الشتاء إذا هطلت الأمطار وتساقطت الثلوج.
ومن المدن التي زرتها أيضا صفاقس، وبنزرت، وطبرقة، ونابل، والحمامات، والجم، والمهدية، وكنت أتمنى أن تتاح لي فرصة زيارة مدينة توزر- مسقط رأس الشاعر أبي القاسم الشابي- ولكن قيل لي إنها بعيدة، ولا بد من ركوب الطائرة لقطع المسافة التي تزيد عن أكثر من 500 كيلو متر عن العاصمة، فلم أتحمس للذهاب إليها.
وقد حرصت على زيارة نهر مجردة، أشهر أنهار تونس وأطولها. وعندما كان الشاعر الأستاذ فاضل خلف يعمل ملحقا صحفيا في السفارة الكويتية في تونس، كان يجلس على ضفاف هذا النهر الخالد، وينظم القصائد في جو شاعري، لذلك أطلق على أحد دواوينه اسم «على ضفاف مجردة»، ومن قصائد الديوان قصيدة عنوانها «نهر مجردة» شارك بها في مهرجان الشعر الحادي عشر المنعقد في تونس، يقول في بعض أبياتها:
تنزل على الخضراء درا وعسجدا/
وزدها على الأيام عزا وسؤودا
وعطر ثراها من معينك بالشذا/
فقد طبت في الآفاق نبعا وموردا
وصفق مع الشادين في كل منحنى/
وحي جموع الهازجين مزغردا
وردد مع الأطيار في الدوح شدوها/
ورجع حفيف الغاب لحنا مجددا
ففي ضفتيك اليوم للمجد ثورة/
بخضرتها تجتث ما كان أجردا
وبعد مضي أكثر من 8 سنوات على تلك الزيارة، عاودني الحنين إلى زيارة تونس في العام الماضي، فسافرت في شهر نوفمبر 2018م، وكان الهدف من هذه الزيارة تكوين انطباع جديد عن هذا البلد بعد اندلاع الثورة، وما أعقبها من تغيرات اقتصادية واجتماعية، ثم زيارة الصديق الشاعر د.نور الدين صمّود في مسقط رأسه في «قليبية» ولقد أشعرته بذلك قبل موعد السفر بشهرين، فكانت الرحلة عن طريق الرياض ثم عمّان وأخيرا الهبوط في مطار قرطاج الدولي، وقد مكثت في مطار عمان نحو 4 ساعات قبل أن تقلع الطائرة إلى تونس، ونزلت هذه المرة في فندق يقع في حي يدعى (لافيات)، وهو قريب من شارع محمد الخامس، ومن أشهر معالمه مبنى الإذاعة الوطنية التونسية.
ولا أدري لماذا بقاء هذا الاسم كل هذه السنوات الطويلة، بعد أن زال الاستعمار عن هذه البلاد ونالت استقلالها؟
ولماذا لا يستبدل اسم (لافيات) باسم عربي؟
في اليوم التالي من وصولي إلى تونس ذهبت إلى موقف (باب عليوة) وركبت سيارة (سرفيس) إلى مدينة قليبية شمالا، وقطعت المسافة في نحو ساعة ونصف الساعة، وهي تبعد عن العاصمة نحو 105 كم، وحينما وصلت إلى هناك استقبلني د.نور الدين صمّود بحفاوة كبيرة، وتناولت معه طعام الغداء، ثم قمنا بجولة بعد العصر؛ للتعرف على معالم المدينة، ومن أبرزها قلعتها المشهورة، ثم أصر د.صمّود أن أبيت تلك الليلة عنده، بعد تهيئة المكان بكل وسائل الراحة.
ود.صمّود عرفته من 20 سنة تقريبا عن طريق المراسلة التقليدية، وقبل ذلك من خلال ما ينشره من قصائد في صحافتنا، وكان يكرمني بكل ما يصدر من دواوين أو بعض الكتب النثرية، ولم ينقطع التواصل بيننا إلا بعد اندلاع الثورة واضطراب البريد.
وهو من أشد المعجبين بشاعر تونس أبي القاسم الشابي، ويحتفظ في مكتبته العامرة بكل آثاره الشعرية والنثرية، وأيضا بجل ما كتب عنه من مقالات ودراسات، وبكل الأعداد الخاصة التي صدرت عنه، وقد أهداني -مشكورا- ديوان أبي القاسم الشابي الذي أصدرته وزارة الثقافة والمحافظة على الترات عام 2009م، بمناسبة مئوية الشابي، ويضم كل الآثار الشعرية والنثرية لأبي القاسم الشابي كما كتبها بخط يده، وقدم للديوان د.صمّود بمقدمة طويلة.
ولقد بلغ من تقدير تونس لشاعرها الشابي أنها وضعت صورته على العملة الورقية من فئة ال 10 دنانير، تقديرا لشاعريته الفذة، فهل هناك تكريم أكبر من هذا التكريم؟
ومن الأمور التي استرعت انتباهي في تونس بعد اندلاع الثورة، انتشار رجال الأمن في كثير من المواقع، لاسيما في شارع الحبيب بو رقيبة حيث يوجد مقر وزارة الداخلية، وحينما كنت أتحدث مع شاب تونسي في موقف (باب عليوة) في وسط البلد، اقترب مني أحد رجال الشرطة، ووضع إبهام ذلك الشاب في جهاز صغير كان يحمله في يده، وحينما انصرف الشرطي، سألت ذلك الشاب عن سبب هذا التصرف الغريب، فقال: «لا تقلق، إنه إجراء أمني، القصد منه المحافظة على أرواح السياح، في حالة لو تعرضت لمكروه مني أو من غيري».
ومن الملاحظ أيضا زيادة نسبة الحجاب بعد الثورة بشكل لافت، وازدياد البطالة عند الشباب، والعنوسة عند الفتيات، وارتفاع نسبة الفقر والغلاء.
وفي اليومين الأخيرين رأيت قضاء ما تبقى من أيام الرحلة في التجول في قلب تونس القديمة، فسرت في أزقة ضيقة، وطرق متعرجة حتى وصلت إلى الخزانة الخلدونية، وسرني ما رأيته من اهتمام بهذه المكتبة التاريخية والنادرة التي تأسست على يد ثلة من شيوخ جامع الزيتونة، والمكتبة تضم آلاف الكتب العربية في مختلف العلوم والآداب والفنون، إضافة إلى قسم الكتب الفرنسية، وبعض المجلات الشهيرة مثل: الهلال، والمنار، والزهراء، والفتح وغيرها.
وبعد ذلك تجولت في (نهج الدباغين) أشهر أسواق بيع الكتب القديمة في العاصمة، فلم أجد فيه ما يروق لي من الكتب التي أبحث عنها، ووجدت في إحدى المكتبات نسخة من الطبعة الثانية من كتاب «الأعلام» للزركلي، تقع في 10 أجزاء، وكدت أشتريها لولا أنها ناقصة أحد الأجزاء فعدلت عن شرائها.
وتصدر في تونس العديد من الصحف اليومية والأسبوعية التي تعاني من ضعف التوزيع وقلة الاشتراكات، ومن الملاحظ أن معظمها يصدر في حجم (التابلويد) - ربما لترشيد النفقات- ومن أبرزها: الصباح، والشروق، والأنوار، والرأي العام، والتحرير، والمجهر.
ومن المصادفات الجميلة أن يتزامن وجودي هناك مع افتتاح معرض الصحافة التونسية القديمة التي صدرت قبل الاستقلال، فكانت فرصة أن أتعرف على هذه الصحف واتجاهاتها، وأن أراها على الطبيعة، ومن تلك الصحف التي عرضت في مكان بارز في شارع الحبيب بورقيبة: الهلال التونسي، ومرشد قدماء المحاربين، والمنار، والحقيقة، والنسناس، والبصير، والشعب، وحبيب الشعب، والنداء، وغصن البان، والبوق.
وهكذا انتهت تلك الأيام الجميلة التي قضيتها في ربوع تونس الخضراء، وما أوردته هنا إلا انطباعات سريعة ولمحات موجزة، وكان بودي الحديث عن مظاهر النهضة الأدبية، وحركة الطباعة والنشر في هذا القطر الشقيق، إلا أن المجال لا يتسع لإيراد كل ذلك.
** **
- سعد بن عايض العتيبي