إطلالة على «حياة السيد كاف لعلي الشدوي، والحالة الحرجة للمدعو «ك» لعزيز محمد، والمسخ لولاء عودة أبو غندر»
لعلَّ من نافلة القول أن نتحدث عن «رائد الكتابة الكابوسية» الأديب التشيكي (فرانز كافكا)، وعن أعماله السردية التي بلغتْ من الشهرة حدًّا قد يبدو فيه تكرارها أمرًا لا يؤسِّسُ لقيمةٍ معرفيةٍ جديدة؛ بيد أنَّ مقالتنا النقدية المقارنة هذه تُحتِّم علينا التحديق – بشكلٍ مُقتضَب – في جوانبَ من محكيَّاتِ ذلك الأديب، ولا سيَّما روايته (الانمساخ)؛ التي ألقت بظلال تأثيرها في المنجزِ الروائيِّ السعوديّ.
وبعدُ، فإنَّ رواية (الانمساخ لكافكا) تكشف عن عمق المأساة والسوداوية وضياع الهُويَّة التي يكابدها الفرد في مجتمعٍ تلاشت فيه قِيم الرحمة والعدالة والاحتواء؛ فــ (غريغور سامسا) – الشخصية المحورية في الرواية – يستيقظ من نومه مُلفيًا نفسه قد استحالَ حشرةً ضخمةً؛ لتبدأ منذ عتبة الاستهلال هاته سلسلةٌ من عذاباته النفسية والجسدية التي تُؤطِّر حاضر السرد مُزيحةً الأقنعةَ الزائفةَ عن وجوه أسرته التي مسَّها الضجر والتخلِّي واللا إنسانية تجاهه، على الرغم من تضحياته لهم يوم أنْ كان موظفًا معافىً، يخبر عنه السارد العليم «كان هو يعطي المال بسرور، وهم يقبلونه بعرفان، لكن شعوراً خاصاً بالحنان والدفء، لم يشأ أن ينشأ بعد الآن». وقد كان مُتوقَّعًا في أفق انتظار القارئ أن تفضي هذه الفاتحة النصيَّة - المحفوفة بالعجائبية والمعاناة وقسوة الأهل – إلى خاتمةٍ سوداويةٍ غرائبيةٍ تمثَّلت في موت (غريغور) - بعد أن تأكَّدت الخادمة من موته بتحريكه في المِكْنَسَة - وفي مشاعر أسرته (الأب والأم والأخت) المشوبة بالارتياح للخلاص منه «قال السيد سامسا: الآن يمكننا أن نحمد الله».
كما أنَّ هذه الرواية، من خلال وقائعها وأحداثها، لم تخلُ من ملامحَ تُدين النزعة البيروقراطية التي كان يرزح تحت وطأتها صغار الموظفين أمثال (غريغور)، ناهيك بأنها قد وقَّعتْ، كما أشرنا سابقًا، على ثيمة تقزيم الفرد وتهميشه وتشييئه والسخرية منه، ومصيره الجنائزيّ في نهاية المطاف. ولعلَّه يُسوَّغُ لنا، بعد إطلالتنا هذه على الشواطئ الكافكيَّة، أن نتساءل: هل ألقتْ العوالم القصصية الكافكيَّة بظلالها على عنوانات الرواية السعودية؟ وما مدى انعكاس هذه العنوانات، العابقة بالأنفاس الكافكيَّة، على هواجس المباني الحكائية؟ وهل سنجد في الرواية السعودية شخصياتٍ تتماهى مع شخصية (غريغور سامسا)، وما مقدار هذا التماهي؟
إنَّ مَن يجوسُ خِلالَ المُنجزِ الروائيِّ السعوديِّ تتبدَّى له رواياتٌ تشي عنواناتها، منذ الوهلة الأولى، بنبْرةٍ كافكيَّةٍ صارخة، ومن هذه الروايات: رواية «حياة السيد كاف» لعلي الشدوي، ورواية «الحالة الحرجة للمدعو ك» لعزيز محمد، ورواية «المسخ» لولاء أبو غندر. ففي عتبة العنوان لروايتَي الشدوي وعزيز محمد نظفر بحرف (الكاف) الذي يشكِّلُ أيقونةً تناصيَّةً تفوحُ منها رائحةٌ كافكيَّة؛ ذلك أن هذا الحرف / الرمز (ك) يحيل ابتداءً إلى (يوزف ك) الشخصية المحورية في رواية (المحاكمة لكافكا) تلك الشخصية التي تتصادى في بؤسها وانمساخها الروحيِّ مع شخصية غريغور؛ فكأنهما وجهانِ لهاجسٍ كافكيٍّ واحد. ناهيك بأنَّ الـ (ك) يُحيل إلى (كافكا) بوصفه أول حرفٍ من حروف اسمه الذي اشتُهر به. ومهما يكن من شيءٍ فإننا في كلا العنوانَيْنِ نقف إزاء أجواءٍ ذات صبغةٍ كافكيَّة. أما في رواية (المسخ) لولاء أبو غندر فإننا لسنا بحاجةٍ إلى كدِّ الذهن ِكي ندرك أنَّ عنوانها يتماهى بشكلٍ جليٍّ مع الانمساخ لكافكا.
بيد أنَّ العنوانَ وإنْ كان يضيء المحتوى العام للنص بوصفه متعاليًا نصيًّا عند جينيت، وأنه أحد المفاتيح التأويلية بحسب (إمبرتو إيكو) - فإنه في الآن نفسه يشكِّلُ تساؤلاً ويخلق انتظارًا كما يرى (ليو هوك)، وتأسيسًا على ذلك فإنَّ عنوانات الروايات السعودية الآنفة الذكر - وإنْ لُوِّنتْ بلونٍ كافكيٍّ ناصع – تظلُّ مرتهنةً في مقدار نزعتها الكافكيَّة إلى إنعام النظر في المباني الحكائية واستيعاب بِنياتها الداخلية، وذلك من خلال التركيز على شخوصها المحورية: السيد كاف، والمدعو (ك)، و(لوكاس) – ومدى تعالقها مع الشخصية المحورية الكافكيَّة (غريغور سامسا).
وقد يحسن أن نذكر هنا أنَّ الاتكاء على الشخصيات المحورية في هاته الدراسة المقارنة لا يعني إغفال بقية العناصر الروائية، وإنما تراءى لنا أنَّ التحديق في الشخصية المحورية يستدعي بالضرورة جُلَّ العناصر التي ينهض عليها النَّصُّ الروائي؛ فلِكُلِّ شخصيةٍ مكانٌ تطؤه، وزمانٌ تستغرقه، وحدثٌ تقوم به، ولغةٌ تتحدث بها، ومنظورٌ يُغلِّفها، ومزاجٌ عامٌّ يُؤطِّرها.
فحين نتأمَّلُ في ملامح اقتراب شخصية (السيد كاف) من الشخصية الكافكيَّة (غريغور سامسا) نُلْفِها مُتحقِّقةً في غير ملمحٍ، منه: ملامح البؤس والشقاء التي أجلبت بِخَيْلها ورَجِلِها على (السيد كاف)، «حياته تعسة وشاقة»، وكراهية الوظيفة وعدم الانسجام معها، يقول: «لماذا علي أن أستمر في مكتبي المثير للأعصاب؟»، بالإضافة إلى النهاية التراجيدية التي آلت إليها هذه الشخصية / الموت انتحارًا. ولعل إحدى صور التباين بين شخصيتي السيد كاف وغريغور تتبدَى في أنَّ علاقة الأولى بوالدها علاقةٌ مُفعمةٌ بالحميمية والنقاء، يقول السيد كاف متحدِّثًا عن والده: «ضمني إلى جسده، ولم يكن في حاجة إلى أن يفصح عن حبه لي»، بخلاف علاقة غريغور بوالده التي بدت هشَّةً أمام صلابة الابتلاء.
بيد أننا في رواية (الحالة الحرجة للمدعو ك) لعزيز محمد، نجد شخصية (ك) أكثر التصاقًا بالبِنية الكافكيَّة وشخصيّتها المحورية. فعلى سبيل البنية السردية، نجد أنَّ الفاتحة النصية عند عزيز قد تشكّلت بتأثيرٍ جليٍّ من الفاتحة النصية لكافكا في (الانمساخ) التي افتتحها بـ: «حين أفاق غريغور سامسا ذات صباح من أحلام مزعجة، وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة ضخمة»، في حين افتتح عزيز محمد روايته بـ «حالما أستيقظ، يراودني شعور بالغثيان»، فنحن إذًا إزاء استهلالين سرديين مُتَماهِيَنِ إلى حدٍّ كبير، إنْ على مستوى التعالُقِ الزمكاني، أم على مستوى التجانس الشعوري المُترَعِ بأنفاس التشاؤم والانطفاء. أما التباين فقد جاء على مستوى الرؤية السردية؛ إذ عوَّل كافكا على الرؤية الموضوعية مُتوَسِّلاً براوٍ كُليِّ العِلم يحكي من خلال ضمير الغائب، بينما عوَّل عزيز محمد على الرؤية الذاتية مُتوسِّلاً براوٍ مُشاركٍ يحكي من خلال ضمير المتكلم.
إنَّ رواية (الحالة الحرجة للمدعو ك) تقدِّم قصة الشخصية المحورية (ك) تلك الشخصية التي كانت تعمل في شركة البتروكيماويات الشرقية إلى أن أُصيبت بداء السرطان الذي قلب حياتها رأسًا على عقب؛ حيث تغيّر الأهل والأحباب، وتحوَّلت الوظيفة إلى مأساةٍ وعذاب، وحطَّت طيور السوداوية والاكتئاب؛ فأصبحنا إزاء شخصيةٍ كافكيَّةٍ بامتياز، ولا سيما أنَّ الكاتبَ لا يفتأ يُصرِّح «إن كافكا، حين تحبطني صورة كل الكتّاب الآخرين، هو عزائي الوحيد». إن المدعو (ك) يتصادى مع الشخصية الكافكيَّة في غير مستوى، فعلى المستوى الأُسريِّ والمهنيِّ نُلْفِهِ، كغريغور سامسا، نذر حياته ووظيفته لتحمُّل أعباء أسرته «فأنا شخص مسؤول عن مصاريف عائلة»، وذلك على الرغم من ضجره من تلك الوظيفة ومن صرامة الرؤساء الغارقين في بحور البيروقراطية، يقول: «يجب ألا يترك الموظف نفسه ليعتاد على الفراغ يقول الخبراء هنا ... رئيسي المباشر شديد الإخلاص لمثل هذه الحِكم».
ولم يقف تعالُق (ك) مع (غريغور) عند هذا الحدِّ، بل ثمة تعالق بينهما من خلال نبرة الخواء العاطفي التي تلقّياها من أُسرتيهما؛ فإذا كانت حياة غريغور مع أُسْرته قد وُسمت بميسم النبذ والإقصاء، فكذلك الأمر بالنسبة لـ (ك):» هنا بدا لـ (ك) أن الجميع قطع كل صلة به». بل يزيد الأمر تماهيًا وسوءًا حين تتموضع الأخت في وعاءٍ سرديٍّ يفيض قسوةً وغلظة، فما إنْ يخبرنا (ك) بأن «علاقته بأخته كانت مشوبة بعدم الارتياح والتوجس والغربة» حتى تتبلور في أذهاننا الصورة اللا إنسانية لأخت (غريغور) حينما قالت لوالديها: «يجب أن نحاول التخلص منه». وتمضي رحلة السرد العزيزي إلى نهايتها حيث تعلو النبرة الكافكيَّة، وتلوح في أفق النَّصِّ معالم السوداوية، ويبلغ الاجترار ذروته حين يقول (ك): «من يدري، فلعلي أستيقظ ذات صباح لأجد أني قد تحولتُ في سريري إلى حشرة ضخمة كما يحدث في قصة الانمساخ».
أمَّا في رواية (المسخ) لولاء أبو غندر، فإنه يواجهنا بعد العنوان ذي البُعد الكافكيِّ تصديرٌ مُنطوٍ على رسالةٍ مُوجَّهَة من الكاتبة «إلى (كافكا) ...إنَّ فوضى التحوُّل لن تنتهي ... ما دامتْ معركةُ الأخلاقِ والعلمِ قائمة». وهذا التصدير يُسهم في توجيه النَّصّ؛ إذ يضطلع بحسب جينيت بوظيفتين: وظيفة توضيحية تميط اللثام عن ثيمة العنوان، ووظيفة بنائية حيث يشكِّل التصدير حلقة وصلٍ بين العنوان والمبنى الحكائي. إذًا نحن أمام نصَّينِ موازيين (العنوان / التصدير)، وكلاهما – مُتعاضدَين - قد شيَّدا علاقة قوامها التأثّر بالعوالم الكافكيَّة. ومن هنا فإنَّ السياحة في النَّصّ عبر وحداته السردية كفيلةٌ بأن تجيبَ عن مقدار هذا التأثُّر.
إنَّ الناظر في رواية (المسخ) لولاء أبو غندر يدرك أنها روايةٌ تُؤسِّسُ لإشكالية فلسفية كبرى عمادها الصراع الجدلي والأزلي بين عددٍ من الثنائيات، ثنائية الروح والمادة، والحب والكراهية، والخير والشر، والجمال والقبح؛ إذ تقوم الرواية على واقعٍ مأزوم تعيش في كنفه الشخصية المحورية (لوكاس)، تلك الشخصية التي زُرعت في رحم امرأةٍ (لونا) من لدن (والتر) الذي أراد أن يهيمن على العالم من خلال ذلك الوليد، يقول الأخير: «لقد قضيتُ أكثر من عشرين عامًا لانتزاع الكروموسومات الوراثية من أذكى رجل في العالم لوضعها في ..». ومن هنا بدأت حياة ذلك الطفل ذي التشكُّلِ الأسطوريِّ الذي أدهش والدته «بالحديث وهو في العام الأول من عمره وهو يناديها باسمها لا بأمي». هذا هو (لوكاس) شخصية أشبه ما تكون بشخصيةٍ (روبوتيَّة) صُنعت على عين (والتر) الخائنة كمادةٍ صلصاليةٍ أراد أن يشكِّلها كيفما يشاء، ويحقنها بجرعاتٍ تغذِّي فلسفته المشحونة بالهيمنة والاستحواذ، ولكن ظهور الفتاة (إيما) أسهم في قلب المعادلة؛ حيث استطاعت أن تنفخ روح الإنسانية والحب والجمال في جسد (لوكاس) مما جعله يقف موقفًا مضادًّا من أيديولوجيا (والتر) المتوحشة الراديكالية. وكأنَّنا إزاء المستويات (الفرويدية) الثلاثة للشخصية؛ حيث تمثِّل الفتاة (إيما) مستوى (الأنا) المعتدلة السويّة، ويمثِّل لوكاس مستوى (الأنا الأعلى) حيث الإفراط في المثالية والمعيارية، بينما يمثِّل (والتر) مستوى (الهُو) حيث الثواء تحت وطأة الغرائز والرغبات المنفلتة.
إنَّ شخصية (لوكاس) تتصادى مع شخصية (غريغور) في انعزالها واستلابها وتمزَّقِ هُويتها وموتها في نهاية المطاف، بل لا تفتأ شخوص الرواية تنعت (لوكاس) بالمسخ في غير موضعٍ من الرواية إلى حدٍّ جعل هذه الشخصية تتزيَّا بهذا الشعور حقيقةً «أشعر وكأني حقًّا كجرجور سامسا»، بيد أنَّ (لوكاس) شكَّل رمزًا لانبعاث الوعي وتحقُّق الانتصار والتضحية بنفسه من خلال قيادة سفينة نوح التي وقفت بالمرصاد لطوفان والتر التخريبي – على خلاف غريغور الذي هيمن عليه شعور العجز والهزيمة ومات في غرفته (حَشَرَةً) لا بواكيَ لها.
ولعلِّي في الختام أخلص إلى القول بأنَّ الرواية السعودية – من خلال تلك الروايات الثلاث – قد تأثَّرت بشكلٍ أو بآخر بالأجواء الكافكيَّة، إنْ على مستوى الرؤية أم التشكيل؛ وقد بدا ذلك جليًّا في عنواناتها وتصديراتها وعتباتها وبنيتها وشخوصها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ انمساخ الشخوص لا يعني استحالتها كائنات أخرى كغريغور سامسا، وإنما يتشكّل الانمساخ حينما تفقد الشخصية كينونتها وماهيَّتها وانتمائها للمجتمع؛ وهذا ما تراءى لنا في شخصية السيد كاف (لعلي الشدوي)، تلك الشخصية الإشكالية - على حدِّ تعبير لوكاش – التي عاشت أزمة المثقف بكل تجلياتها، ولمَّا لم تجد انتماءً حقيقيًّا ماتت منتحرةً. وكذلك الأمر بالنسبة لشخصية المدعو (ك) في رواية (عزيز محمد)، تلك الشخصية التي عاشت أزمة داء السرطان بكل مأساته حتى استحالت كائنًا لا منتميًا – بحسب كولن ولسون – مُرغمًا على العزلة والانزواء والاكتهاف. أمَّا شخصية (لوكاس) في رواية (ولاء أبو غندر) فكان انمساخها انمساخًا روبوتيًّا فصاميًّا حيث انشطرت إلى ذاتين مختلفتين: ذات (لوكاس) التي صُنعت على عين (إيما) حيث الروح والحرية والحب والسلام، وذات (هانا) التي صُنعت على عين (والتر) حيث التشيؤ والاستلاب والهيمنة والانتقام. بيد أنَّ الانتصار كان من نصيبِ قِيَمِ الحُبِّ والجمال التي لم تكن يومًا لتتعارض مع تقدُّم العِلم ما دامت الأخلاقُ شريانًا يُغذِّي قلوب البشرية. وقد وردتْ في ثنايا هذا النَّصّ – أعني نصّ المسخ لولاء أبو غندر – عبارةٌ بلسانِ (إيما) تخاطب بها (لوكاس) – أراها عِبارةً تُمثِّلُ البؤرة المحورية والبنية المركزية التي ألحَّ النَّصُّ على إيصالها؛ حيث تقول:» ولكني أرى بأنَّ الحُبَّ هو شيءٌ يجبُ أنْ تحيا به، إنَّنا لا نستطيعُ أنْ نعيشَ بلا حُبٍّ أو انتماء، لن يكون للحياة أي معنى ...».
** **
د. منصور بن محمد البلوي - أكاديمي بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة