بينما نتحدث عن التطوع ونشهد الخطى الحثيثة التي تتسارع حول العالم للدعوة إليه وتبنيه كسلوك اجتماعي ضروري لدرجة الحتمية، لا بد من وقفة لنعتز فيها بقيمنا الإسلامية والوطنية التي تجعل من التطوع والعطاء سمات يتميّز بها كلّ سعوديّ وسعوديّة، فلطالما كان الشاب السعودي والفتاة السعودية مثالاً يحتذى به لأصحاب النفوس الكريمة ممن يبادرون بالعطاء ويسارعون إلى تقديم العون بلا مقابل، ذلك أن العطاء والبذل والإحسان وغيرها من التوصيفات التي تدور في فلك التطوع بمفهوم اليوم هي صبغةٌ في ذات الإنسان السعودي وفي تكوينه الأصيل وأخلاقياته الرفيعة التي لا تغيرها الأيام.
ولا شك أن الآثار الإيجابية للعمل التطوعي تبدو جلية للعيان دون الحاجة للمزيد من تسليط الضوء عليها، فمنفعته لها أبعاد مختلفة اجتماعية واقتصادية وشخصية لا يمكن حصرها. أمّا بالنّسبة للشباب، فيعدّ التطوّع فرصة للمتطوع لإكسابه مهارات حياتية متعددة أخلاقيًا ومهنيًا، واحتكاكه بأصحاب الخبرات الذين يساعدونه في تعلم المهارات بشكل متقن ودقيق، وتنمية حس المسؤولية والانضباط والدقة والإنجاز تجاه المجتمع وتغذية أخلاقيات العمل التطوعي وأديباته، فتختصر تجربته التطوّعية سنوات من الخبرة والمعرفة وهذه الآثار تنعكس في نهاية الأمر على شخصية المتطوع فيصبح بذلك فردًا فاعلاً يسهم في بناء مجتمعه ووطنه.
إلا أنه خلال العقد الماضي؛ تجاوز العمل التطوعي مفهومه التقليدي كمبادرة تفاعلية خيرية تهدف إلى دعم المجتمع وإسناده، ليصبح اليوم توجهًا دوليًا تنادي به متطلبات الحياة الحديثة وتحث عليه الدراسات الاجتماعية والتنموية المعاصرة، وليس أدل على تصاعد هذا التوجه وجديّته مما أعلنت عنه الهيئة العامة للأمم المتحدة عام 2015 ضمن خطة التنمية المستدامة الرامية إلى تحقيق واقع مستقر ومسالم وصحي، حيث جعلت من العمل التطوعي ركيزة أساسية من مرتكزات تحقيق هذه الخطة ومنطلقًا جوهريًا للوصول إلى غايات التنمية المستدامة بحلول 2030م.
هذا الاتجاه نحو تعزيز التطوع قد بدأ فعلاً في أخذ شكل مؤسسي مدفوع بدعم حكومي في مختلف دول العالم، إيمانًا بقيمة التطوع وعوائده الاستراتيجية والآنية اللافتة سواء على مستوى الاقتصاد أو المجتمع أو حتى مهارات الفرد ورفع الكفاءة وتنويع الخبرات، فعلى سبيل المثال؛ تشير تقارير رسمية صدرت عن الولايات المتحدة خلال عام 2018 أن أكثر من 30.3 بالمائة من الأمريكيين قد انخرطوا في نشاط تطوعي واحد على الأقل خلال العام، بما يعادل 77 مليون متطوع، وقد أنفقوا حوالي 7 مليارات ساعة تطوع تعادل ما قيمته 167 مليار دولار كقيمة اقتصادية. بينما شهدت المملكة المتحدة مشاركة 22 في المائة من الإنجليزيين ممن تتجاوز أعمارهم 16 في برنامج تطوعي واحد على الأقل كل شهر، وهي نسبة تتقارب مع إحصاءات العام المنصرم.
وفي المملكة العربية السعودية يتجلى هذا الاهتمام بالعمل التطوعي كمكوّن من مكونات رؤية المملكة الواعدة 2030، حيث يمثل محور (الوطن الطموح) أحد المحاور الثلاثة في رؤية المملكة وهو محور يتناول مسؤولية المواطن تجاه مجتمعه من خلال تمكين ثقافة العمل التطوعي وترسيخ قيم التراحم والتعاون والتعاطف في المجتمع السعودي، وتقديم الدعم الحكومي اللازم لتشجيع العمل التطوعي وتعزيزه، بالإضافة إلى تسليط الضوء على تطوّع المختصّين الذي يضيف بُعداً آخر للعمل التطوعيّ المنظم. كما أنه تم اعتماد المعيار السعودي للعمل التطوّعي كشرط أساسي يجب اجتيازه من قبل جميع المنظمات والوحدات التطوْعية لتنظيم العملية التطوّعية في المملكة. ويهدف هذا الحراك الممنهج إلى رفع قيمة التطوع وجعله قابلاً للقياس، إذ من المتوقع في 2020 أن تحقق أكثر من ثلث المشاريع التي تديرها منظمات سعودية غير ربحية أثرًا اجتماعيًا واقتصادياً قابلاً للقياس يرتبط بالأولويات الوطنية.
وتماهيًا مع هذا الاتجاه الوطني الجاد نحو تمكين العمل التطوعي بأنواعه وإشاعته كثقافة وهوية لمجتمعنا الأصيل، يبرز مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) كصرح صانع للثقافة بوجه عام، ورافد من روافد دعم العمل التطوعي وتشجيعه على وجه الخصوص، وهو أمر يوليه المركز اهتمامًا فائقًا في كل محافله ومبادراته وأنشطته التي يقيمها، بل إن الدور الذي يقوم به المركز يتجاوز إطار تمكين العمل التطوعي وإتاحة الفرصة لممارسته إلى العمل على نشر ثقافة التطوع بمفهومها الصحيح وتطوير أدواتها وإقامة الورش والبرامج التأهيلية والتدريبية والتنفيذية للمتطوعين ليساهموا بشكل أكثر فاعلية في مساعيهم وعطائهم، وللأرقام في إثراء شواهد على هذا التوجه الحثيث لدعم صناعة التطوع وإلهامه، فقد سجل المركز رقمًا لافتًا تمثل في تحقيق ربع مليون ساعة تطوع قدمها أكثر من 3000 شاب وشابة ممن انضموا لبرنامج التطوع في المركز، كما قدم المركز ما يقارب 50 ألف ساعة تدريبية للمتطوعين منحتهم القدرة على تنظيم الفعاليات وإدارة البرامج والمساهمة في إنجاح برامج المركز وأنشطته بالإضافة لإعدادهم لمستقبل واعد بمهارات وخبرات عمليّه تتماشى مع مهارات المستقبل.
لا تتوقف الطموحات عند هذا الحد، فلا تزال الرحلة غنية بما هو قادم على سبيل إثراء التطوع وترسيخ مفاهيمه ونشره كأسلوب حياة وثقافة عمل، يهدف إلى جعل التطوع جزءًا من الممارسات المجتمعية ورئة ثالثة تزيد من كفاءة المجتمع وترابطه، وتنعكس على اقتصاده ونمائه واستدامته.